نعم لقد كان الشمعة التي تنير حياتي المظلمة..لقد كان النسمة الباردة في أيامي الحارة..لقد كان ملجئي في شدائدي..كنت احتاجه كحاجة الظمآن للماء والجائع للطعام والمؤمن للصلاة..كان حياتي كلها والان رحل الى غير عودة..انه والدي الذي من دون ان استطيع ان اودعه..مات بسبب سائق ارعن قطع الاشارة الضوئية الحمراء كالمجنون ..كان ثملا يقود سيارته من دون ان يرى شيئا امامه ودفع ثمن استهتاره حياته وحياة ابي وشللي الدائم..اصبحت مقعدا و "يتيما" في خلال ايام.....
كان والدي شابا يافعا عندما تزوج بالكاد اكمل الثامنة عشرة..حملت والدتي بسرعة وعندما ذهبا لزيارة الطبيب خرج الاخير بعد معاينتها وقال:مبروك زوجتك حامل بتوأمين فرح والدي كثيرا بالخبر وكان ينتظر ولادتنا بفارغ الصبر..كان يقول لوالدتي إن انجبتي ولدين سوف اصطحبهما كل يوم إلى الملعب معي ليتقنا كرة القدم ويصبحا محترفين.. وكانت الفرحة الكبرى عندما ولدنا اخي وانا كنا كنقطتي ماء لا يستطيع احد ان يعرف من هو يعقوب ومن هو يوسف..
كانت والدتي تطعم احدنا مرتين وتترك الثاني من دون طعام الى ان قررت وضع سوار من الصوف حول معصم شقيقي يعقوب الذي حمل اسم جدي.. كانا لا ينامان في الليل فقد كنا نستيقظ سويا ونصرخ بصوت واحد طلبا للطعام..فكانا يقفزان من السرير ليطعم كل واحد منهما احدنا..وبعد فترة عندما كبرنا وفى والدي بوعده واخذ يأخذنا معه الى الملعب لنراه وهو يلعب مع فريقه في الفريج كرة القدم التي كان يتقنها ثم ما لبثت والدتي ان حملت مرة ثانية بتوأمين آخرين لكنهما كانا بنتا وولدا "مريم وعيسى" اصبحت عائلتنا كبيرة بفترة لا تتعدى السنتين وكان والدي سعيدا جدا..إذ اطلقوا عليه لقب ابو التوائم..
كان همه ان نكون الاوائل في مدارسنا وطبعا رياضته المفضلة..وكان صديقا لنا اكثر مما هو والد فقد اصبحنا في الثامنة عشرة وهو في السادسة والثلاثين من عمره..كان يذهب معنا برحلاتنا الى البر مع اصدقائنا الذين كانوا يحبونه كثيرا ويحسدوننا عليه كان حبه الكبير لنا وتعامله معهم بمحبة فريدة من نوعها تدهش من حولنا..ابتاع لنا سيارة واحدة لأننا كنا لا نفترق:شقيقي وانا..كنا نصحب عيسى معنا في المناسبات فقط فهو بنظرنا صغير ولديه اصدقاؤه وحياته الخاصة..التي هي مختلفة عن حياتنا فهو لم يحب يوما الكرة ولا يحب رحلاتنا ..
كان يحب الذهاب الى المراكز التجارية وهو بكامل اناقته ليتسكع هناك من الشباب من سنه حيث يوزعون ارقام هواتفهم على الفتيات وعندما علم ابي جن جنونه وقال له:ألا تخاف على شقيقتك؟ يا ولدي إن الشي الذي لا تقبله لنفسك لا تقبله لغيرك اريدك من الان فصاعدا ان تأتي معنا كل يوم الى الملعب فأنت لم تعد تمارس الرياضة مثل قبل وهناك وقت لنا ووقت لرفاقك اتفقنا؟؟وبما اننا جميعا نعشق والدي لم نقل له كلمة لا ولو لمرة واحدة فطيبته ومحبته لنا تفوق الوصف لم يكن يدع احدا منا ينام وهو مستاء كان يأتي الى غرفنا ليضحكنا.. لقد كان فكاهيا ناجحا ومقلدا بارعا..ماذا اخبركم عن ابي وعن تصرفاته فأنا لو استطيع ان اصفه لكم لاحتجت لمئات بل لآلاف من الصفحات..انا لا اقول هكذا لانه ابي..صدقوني فهو فعلا فريد من نوعه ..
كان دائما يقول لعمي الذي لا يعرف كيف يتعامل مع اولاده ..إن اولادك ليسوا لك..اتوا الى العالم يعيشوا معك لكنهم ليسوا ملكا لك..امنحهم محبتك وتفهمك اقترب منهم لكن لا تحاول غرس افكارك فيهم لان لهم افكارهم التي لا تلذ لها الاقامة في منازل الامس..كان مثقفا يحب المطالعه والادب كان يحب جبران خليل جبران ويقرأ كتبه..يعود دائما الى المفضل لديه وهو النبي صلى الله عليه وسلم ليتعلم منه ويقول لعمي ما قاله..كان ينصحنا بقراءة كتبه كنا نفاجأ بمعلوماته مع انه لم يكمل تعليمه لكن ثقافته العامة كانت تدهشنا كنا نطلب منه ان يشترك ببرنامج من سيربح المليون فلقد كان موسوعة كان يعرف تقريبا كل شي ويحفظ برأسه كل ما يقرأ..
ليتني اصبح مثله في المستقبل ..كان يتمنى علي مجرد تمن لو استطيع ان ادخل كلية الحقوق لاصبح محاميا لانني محدث لبق واتكلم جيدا بعكس شقيقي الذي يريد منذ صغره ان يكون طبيبا..فرحته لا توصف عندما يسألونه عنا ..كيف حال الطبيب والمحامي.. وعيسى هل فعلا اصبح لاعبا محترفا؟؟ ماشاء الله يابو يعقوب على اولادك لقد غدوا شيئا مشرفا..كان يخاف علينا من الحسد ويقول :فليحفظكم الله من كل شر..
وفي يوم..اردنا الخروج.. اشقائي وانا الى المجلس عند بعض الاصدقاء واذ به يتبعنا ويقول: هل استطيع ان اذهب معكم؟فقلنا طبعا حياك الله يابو يعقوب سوف يفرحون بك فهم دائما يسألون عنك ..ما الذي جعلك تفكر بالمجيء معنا؟.. قال:هكذا فقط اريد ان امضي وقت اكثر معكم فانا لم اعد اراكم كثيرا..كأنه شعر بالخطر المحدق بنا وكان كمن يحاول ان يحمينا فقد جلس قربي وانا اقود وجلس شقيقاي في المقعد الخلفي وما هي إلا دقائق حتى اصبحنا في المستشفى بعدما صدمنا ذاك الرجل..
الحمدلله ان يعقوب وعيسى لم يتأذيا ففقد اصيبا بجروج طفيفة اما انا و ابي فقد كنا سويا بغرفة الانعاش كان يرقد على السرير ويقول لي إنه قرب النافذة وانا صدقته كنت اسأله ماذا ترى يا ابي اخبرني كنت اسأله واخفف عنه قلقه علي كان يقول لي ان السماء زرقاء صافية.. العصافير تطير من هنا وهناك ..السيارات تمر مسرعة..هل تريد ان اقول لك عدد السيارات التي تفوق سرعتها الحد المسموح به ايضا؟؟..كنت اضحك ..
بقيت معه في العناية الفائقة مدة اربع وعشرين ساعة..خرجت بعدها الى غرفتي بعدما استقر وضعي لكنه لم يخرج من هناك إلا لمثواه الاخير فقد كان لديه نزيف في رأسه وقد فقد نظره عند وقوع الحادث وبما انني لم اراه وهو معصوم العينين لان هناك ستارة تفصل بيننا لم اعلم بأنه اصبح ضريرا كان يخبرني اشياء لا يراها حتى يعطيني الامل ولا يخبرني بما اصابه..
هذا هو والدي الذي احببت واود ان اهديه كتابا كانت مقدمته من كلمات جبران الذي احبه دائما ..وتقول:إلى ابي الصديق..انت كفاية حاجتي..انت مائدتي وموقدي..آتي اليك جائعا واسعى وراءك مستدفئا وعندما فارقتني لم احزن لان ما اعشقه فيك اصبح في غيابك واوضح في عيني منه في حضورك لان الجبل يبدو لمن ينظر اليه من السهل..
اكثر وضوحا مما يظهر لمن يتسلقه..رحمك الله يا والدي..سوف اصبح محاميا كما رغبت وكاتبا كما تمنيت لكنني اعتذر منك عن تحقيق امنيتك بأن اصبح لاعب كرة قدم لانني اصبحت مقعدا لكنني لست يائسا لانك ستكون دوما معي......