كثرت مشكلاتنا الاجتماعية في حياتنا وبلادنا الإسلامية ، وجدّت ، وقويت ، وتعاظمت في كثيرٍ من مجتمعات المسلمين صورٌ وأنماطٌ وأخلاقٌ ، ليست من الإسلام في شئ ، وأصبحت تلقي بظلالها على تلك المجتمعات ، وتفرض قيمها فيها ، وتحكم أوضاعها وتقوم مسيرتها في كثيرٍ من أحوالها ، ولم يكن لكثيرٍ من هذه المجتمعات عهدٌ بمثل هذه المخالفات ، ولم يكن لها قبولٌ بينها ، بل كانت تعافها القلوب ، وتشمئز منها النفوس ، وترفضها العقول ، وينكرها الصالحون والمصلحون ، ولكنها تسللت شيئاً فشيئاً ، وبدأت قليلاً ثم صارت كثيرا ، وأول الغيث قطرةٌ ، ثم ينهمر ، ومعظم النار من مستصغر الشرر ، ولعلنا اليوم لا نحتاج إلى كثير جهدٍ ، ولا إلى عميق تفكيرٍ ؛ لنعدد مثل هذه المشكلات ، أو لنضرب الأمثلة عليها ، أو لنرى آثارها الوخيمة ، وأضرارها العظيمة ، التي تفجرت في مجتمعاتٍ إسلاميةٍ كثيرة .
إهمال الآباء ، وغياب الأمهات ، شكوى ظاهرة ، وصورةٌ واضحة ، كم من الأبناء تاه ؟ وكم من الفتيات ضعن لعدم وجود أبٍ مربٍ ، أو أمٍ راعية ؟ تفلتت الأسرة عندما غاب عن قائدها ، وربانها ، فهو المسؤول ، وهو القائد وكم رأينا أيضاً من صورٍ أخرى مقابلة ، عقوق الأبناء ، وضياع البنات ، ناتجٌ من أثر ذلك . وكم رأينا صوراً كثيرةً في خارج دائرة الأسرة ، إلى دائرة المجتمع ، إلى صورٍ كثيرة ، ظلم الرجل ، وقهر المرأة ، تسلط المرأة ، وغياب الرجولة ،غيرةٌ جائرة ، أو دياثةٌ فاجرة ، طلاقٌ سريع ، أو تصدعٌ مريع ، أسرٌ مفككه ، وأجيالٌ مضيعة ، فراقٌ قاتل ، وبطالةٌ آثمة ، شهواتٌ ثائرة ، وفواحش ظاهرة ، أمانةٌ زائلة ، وأخلاقٌ زائفة ، صورٌ كثيرةٌ مريرةٌ دامية ، نراها في واقع كثيرٍ من مجتمعاتنا ، لم تعد تلك المجتمعات التي تنعم بالصفاء والسلام ، لم تعد تلك الأسر التي تضللها المحبة والوئام ، لم تعد تلك العلاقة التي تمتد من الأبناء إلى الأباء بالاحترام ، ومن الآباء إلى الأبناء بالرعاية والإكرام ، لم نعد نرى صور الشباب الذي كان يخوض ميادين العلم ، ليكون مبرزاً متفوقا ، والذي كان يخوض ميادين الجهاد ، ليكون فارساً مؤثرا ، والذي كان يخوض ميادين الحياة الإنسانية ، ليكون متقدماً سابقا لقد صرنا اليوم نشكو من طفولةٍ ليس لها همٌ إلا اللهو واللعب ، ومن شبابٍ ضائعٍ ليس له هدفٌ ، ولا غاية ، وليس له منهج ولا رسالة ، وكل ذلك يتفرع منه كثيرٌ وكثيرٌ من الصور ، { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون } ، سنة الله - عز وجل - { إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم } ، { أولما أصابتكم مصيبةٌ قد أصبتم مثليها قلتم أنّى هذا قل هو من عند أنفسكم } .
عندما غابت هذه السنن ، لم نفقهها ، ولم نحرص على رعايتها ، مضت فينا سنة الله ، وجرت علينا أقدار الله ، فتغيرت القلوب ، وتحولت النفوس ، وانحرفت السلوكيات ، وتغيرت وتبدلت الأخلاقيات ، وصرنا نشكو من صورٍ كثيرةٍ ، ومن أضرارٍ عظيمة ، { وما أصابكم من مصيبةٍ فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } .
ولو أن الله - جل وعلا - حاسب أمة الإسلام على كل تفريطٍ منها ، وتقصير ، وعلى كل جحودٍ ، ونكود ، ما ترك على ظهرها من دابة ، ولكنه - سبحانه وتعالى - يربي الأمة ببعض البلاء ، ويربيها بما يقع عليها من أثر مخالفة أمره ، ومخالفة نهجه - سبحانه وتعالى - .
إن المتأمل يجد هذه الصور ، وهي تفرز حقائق واضحة ، والذي يدعونا أن نتحدث بمثل هذا الحديث ، ونخوض في مثل هذا الموضوع ؛ زيادة الظاهرة ، واتساع الخرق على الواقع ، حتى قال أحد الأدباء المربين - الذين لهم خبرةٌ عظيمةٌ في مجال التربية والتعليم وفي مجال الأدب والتهذيب - معلناً عن ضخامة هذا الأثر ، ومن عظم اتساع الخرق ، وهو يبين أن مثل قوله وحده ، وأن مثل كتابته ، أو خطبته وحده ، مع نفرٍ قليلٍ لا يجدي نفعا ، ولا يغير واقعاً فيقول : اخطبوا أيها المدرسون ، ماوسعكم الجهد ، واهرؤ من فسح لكم سبيل الهراء ، وقولوا للشباب : كن صّيناً عفيفاً ، إنها لن تجدي عليكم خطبكم ، ولا يستقر في نفسه هراءكم ، إنه يخرج فيسمع إبليس يخطب خطبةً بلغة الطبيعة الثائرة ، في السوق على لسان المرأة المتبرجة ، وفي الساحل على لسان الأجساد العارية ، وفي السينما على لسان المناظر المتهتكة ، المثيرة وفي المكتبة على لسان الجريدة المصورة ، والرواية الخليعة الماجنة ، وفي المدرسة على لسان أصحابه الفساق المستهترين ، ثم يقول مسلطاً الضوء على حقيقة الواقع ، في حياة أكثر المجتمعات الإسلامية ، إلا ما رحم الله بناء الأخلاق فيها ، وسوق الزواج يبور ، ونسل الأمة ينقطع ، والمخازي والرذائل تعم ، وتنتشر ، وليس هذا مبالغة ، وليس هذا خيالٌ لرجلٍ مريضٍ ، أو متشائم ، وإنما هو رسمٌ لبعض ملامح الواقع الذي تفشى في مجتمعاتٍ إسلاميةٍ كثيرة ، ولعلنا نذكر أيضاً بعض الحوادث التي دعت إلى مثل هذا الحديث عندما كثر حديث الناس ، وكثرت شكواهم ، وظهرت بعض الصور التي تهزنا هزاً ، وتدعونا ونحن - بحمد الله عز وجل - في خيرٍ كثير ، ونسلم من شرٍ كثير ، لكن الفتنة بدأت تطرق أبوابنا ، والمشكلات بدأت تطل علينا برؤوسها ، ولعلنا إن لم نخشى الله - سبحانه وتعالى - ونتخذ من أسباب الحيطة والحذر ، ومن أسباب الوقاية والعلاج ما يلزم ، فلعلنا نصيح يوماً ونقول : " أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض " . ولعلنا نعض أصابع الندم كما يعضها غيرنا في بلادٍ إسلاميةٍ ، وغير إسلامية ، عندما انفرط الحبل على غاربة ، وعندما ضاعت معالم الأخلاق الفاضلة ، والمبادئ والقيم السامية ، فلننظر إلى بعض الآثار الواضحة ، التي يعاني منها كثيرٌ من الناس وبدأنا نشعر بآثارها ، وبدأ يصلنا لفحها ولهيبها ، ألسنا نرى هماً في القلوب ،
وحيرةً في النفوس إنعدمت معها طمأنينة القلوب ، وسكينة النفوس ، أليس ذلك مصداقاً لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي روي عن حذيفة مرفوعاً :
( تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عودا ، فأيما قلبٍ أُشربها نُكت فيه نكتةٌ سوداء ، فإن تاب واستغفر ، صقل منها ، وإلا أصبح قلبه أسود مرباداً ، كالكوز مجخياً ، لا يعرف معروفاً ، ولا ينكر منكراً ، إلا ما أُشرب من هواه ) .
أليس قد أظلمت القلوب ، واسودت النفوس ، وتجهمت الوجوه ، وغاض ماء الحياة فيها ؟ ألسنا نرى تلك الفضاضة والغلظة ؟ ألسنا نرى ذلك التكدر ، والتعصب ، وذلك السوء في الخلق ، الذي انعكس من أثر ماعلى القلوب من الهموم ، وما ران على النفوس من الغموم ؟ .
إننا نلمح ذلك ، ونتلمس أنفسنا ، ونحاول أن نقارن بين القمة السامقة ، التي ينادي بها القرآن الكريم ، ويدعونا إليها ، وبين واقع الحال الذي نعيشه { يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويكفر عنكم سيئاتكم } . أي يجعل لكم من قلوبكم النقية ، وفطركم السوية ، ما تميزون به بين الحق والباطل ، فتنقبض النفوس ، وتجزع القلوب من أي منكرٍ عارضٍ ، لو لم يقم عندها عليه دليلٌ من الشرع ، أو معرفةٌ بحكمٍ من آيةٍ أو حديث . فكيف بنا ونحن نعرف الآيات والحديث ؟ لكن القلوب لم تعد منكرة ، والنفوس لم تعد متغيرة ، بل وإن السلوك أصبح يجاري ويوافق ، إن لم يمارس ويفعل إن لم يدعو ويجاهد ، نسأل الله - عز وجل – السلامة.
ألسنا نرى دواماً في الاضطراب ، وتزايداً في القلق ؟ ألسنا نرى حال كثير من الناس اليوم لم يعد فيه استقرار ؟ وبالتالي فإن كلمةً واحدة كفيلة بأن تفجر غضباً ، كأنما هو بركانٌ محبوس ، إن في النفوس من العلل والأدواء ، ومن أثر أمراض الشهوات ، والخروج عن دين الله - عز وجل - أثرٌ عظيم اخبرنا الله - عز وجل - به في شطر آية { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى } .
إننا عندما نتأمل ؛ نجد أيضاً فحشاً في الأقوال ، وعنفاً في الأفعال ، ألسنا نرى اليوم رجالاً يضربون نسائهم ، كما يضرب الرجل دابته ، وبهيمته ؟ ألسنا نرى آباء يريدون أن ينهجوا نهجاً من التربية ، يظنونه قويماً ، لكنهم قد اختلطت عليهم الأمور ، والتوت عليهم المسالك ، فإذا بهم يجلدون أبنائهم ، كأنما هم يريدون قتلهم ، ألسنا نرى تلك الكلمات من قاموس الفحش ، والسب ، واللعن ، والغمز ، واللمز والغيبة ، والنميمة ، حتى صارت هي الشائعة ، فلا تكاد الأذن تسمع غيرها ، ولا يكاد القلب يتلقى سواها ، حتى أصبحت كما قال عروة بن الزبير - رحمه الله -
: رأيت ألسنتهم لاغية ، وآذانهم صاغية ، وقلوبهم لاهية ، وأديانهم واهية ، فخشيت أن تلحقني منهم داهية .
وحسبكم داهيةً بمثل هذه الدواهي ! ألسنا نرى أيضاً انحلالاً في الخلق ، واختلالاً في الأمن ، بدأ يسري إلى مجتمعات المسلمين ، ويستحكم فيها ، فلم تعد ثمة فضيلةٍ ، يُحرص عليها ، ولا أمنٌ يستتب ويشيع ، فإذا نحن نرى للفواحش ظهوراً ، بل لها في بعض بلاد المسلمين – وللأسف - قوانين تحميها ، ودساتير تنظمها ، زعموا ذلك حضارة أو تقدماً ، أو زعموه حريةً شخصيةً ، أو غير ذلك .
ألسنا نرى جريمةً تعدت اليوم الفواحش ، من زنا ، ولواط إلى شذوذٍ . بل إلى اغتصابٍ ، بل إلى قتلٍ ، وسرقةٍ ، ونهبٍ ؟. ألسنا نرى المخدرات تفتك بشباب الأمة وشاباتها ؟ ألسنا نرى ونرى ونرى آثارٌ من آثار تلك المشكلات ؟ وكذلك غيابٌ في القيم ، وفسادٌ في الأعراف ، ولعلنا لا نريد أن نكثر الشكوى ، ولا نريد أن نعدد صور المأساة ، ولكننا أيضاً لا نريد أن نكون كالنعامة ، تدس رأسها في التراب ، إذا داهمها الخطر ، فالخطر يحدق بها وهي لا تراه ، وتظن بأنها بذلك تحسن صنعاً.
إنه ليس لنا بحالٍ من الأحوال ، إلا أن نصارح أنفسنا بما جد في واقعنا ، وبما ظهر من انحرافٍ في بيئتنا ، وان نتكاتف ونتعاون جميعاً ،لأنه كما قال ذلك القائل : فليخطب الخطباء ؛ فإن خطبهم وحدها لا تكفي ، لكنها جزءٌ من تربية الآباء مع رعاية الأمهات ، ومع دور المدرسين والمدرسات ، ومع تكاتف جهود الصحف والجرائد والمجلات ، إلى غير ذلك من تكاملٍ ، ما لم نأخذ بأسبابه ، فإننا نخشى أن تصيبنا تلك الداهية ، وأن تعمنا تلك البلايا والرزايا ، التي عمّت كثيراُ من المجتمعات ، وبدأت تشكو منها ، ولعلي أذكر بعض الحوادث التي ربما دعتني - في جزءٍ منها - إلى هذا الحديث:
- في الثامن من شهر ذي الحجة الذي مضى ، وبعد صلاة الفجر في هذا المسجد وجد الناس عند بابه ، طفلاً رضيعاً مولوداً ، ربما لم يمضي على ولادته إلا بضع ساعات ؛ ملفوفاً في خرقهٍ ، متروكاً مهجوراً ، يدل وجوده على وجود جريمة ، ويدل وجوده على اختلال قيم ، ويدل وجوده على غياب أمن ، ويدل وجوده على خرقٍ ، بدأ يتسع ، وينبغي أن نتلافاه ، ونسعى إليه جميعاً ، ولم تكن هذه الحادثة الأولى ، بل سبقتها قبل بضع سنواتٍ ، حادثةٌ مماثلة ، ولعلها أيضا تكون أيضاً متكررةً هنا وهناك ، ورغم قلتها مقارنةً بغيرنا ، وبغيرها من البلاد ، إلا أنها مؤشرٌ ينبغي أن نقف عنده ، وقبل بضعة أسابيع أيضاً ، وقفت على مشكلةٍ بين زوجٍ وزوجةٍ لم يمضي على زواجهما إلا بضعة أشهرٍ ، لا تتجاوز الثلاثة أو الأربعة ، وإذا بالأمر ينتهي إلى قرار الطلاق ، لفتاةٍ لم تبلغ الثامنة عشر بعد ، وأي سبب لهذا الطلاق ؟ إنه بسبب الخشب ، وليس في هذا من عجب ! إنه بسبب قطعةٍ من أثاثٍ تريدها الأم ، أو تريدها الزوجة ؛ فإن لم يكن هذا الأثاث ، فلتنقطع الحياة ، ولتنفصم عُراها ، ولتتفكك الأسرة ، وليذهب الشرف ، ولتتخلف كل مبادئ الدين ، وقيم الإسلام ، وتوجيهات القرآن ، وهدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أجل قطعة أثاثٍ ، وقطعة خشب ، وهذا - لا شك أيضاً - أنه يكشف الحال ، عن قيمٍ قد تغيرت ، وعقولٍ قد تبدلت ، ونفوسٍ قد انحرفت ، وإلا لما وصلنا إلى أن يكون مصير فتاةٍ دون الثامنة عشر - لم يتم على زواجها إلا بضعة أشهر - أن يضحى بها ، وأن تذبح على مذبح الطلاق - في واقعنا الاجتماعي اليوم - لأجل قطعةٍ من أثاثٍ مع زوجٍ ظاهره أنه من أهل الخير والصلاح ، يحفظ كتاب الله - عز وجل - في قلبه وصدره ، يزهد فيه ، ويتحقق قول المصطفى - عليه الصلاة والسلام - : ( إلا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ عريض ) .
