إبراهيم صموئيل: من عنوانه أضحكني الخبر وأثار استغرابي، اذ هل يمكن للتقنيات الحديثة اقتحام عالم الغياب ـ الذي طالما ظل مغلقاً على غموضه وأسراره أمام البشر منذ العصر الحجري الى اليوم ـ والتواصل على نحو ما مع الأحباء الغائبين؟!
يعلن الخبر المنشور عن اختراع «خلوي خاص للتحدث الى الموتى» زافّاً للأحياء بشرى بأنه صار «يستطيع الآن الراغبون في التحدّث الى موتاهم الاتصال بهم هاتفياً بفضل هاتف نقّال خاص، اخترعه رجل ألماني أراد البقاء على اتصال بوالدته الراحلة»!
بالطبع، لم أقع في أحابيل الخبر، غير أنني أكملت قراءته لا لكي أرى كيف يمكن اتصال الأحياء بالغائبين عبر الهاتف، وانما لأقف مع رغبة التواصل الملحاحة التي اتخذت مئات الأشكال، آخرها هذا الخبر السعيد!
لم يخرج صاحبنا الألماني المدعو يورغن بروثر بأي جديد على العالم سوى أنه أفسح في المجال أكثر أمام الرغبات القوية التي نلمسها عند الأحياء في وقوفهم لدقائق أمام مثوى أحبائهم الراحلين، والتحدّث اليهم همساً، كي لا يظن الآخرون، فيما لو رفع المتحدّثون الصوت، أنهم قد جنّوا! فاخترع هاتفاً نقّالاً يُوارى مع الغائب، وآخر يحتفظ به المُحبّ الحي ليتحدّث عبره بحرية تامة، وصوت طليق من منزله أو مكان عمله كما يحلو لمشاعره أن تفيض وتعبّر، فيتخفَّف من دواخله وأحزانه ولوعاته، وكذا من عيون الناس الرقباء حوله.
لا تهمّ أحكام العقل ـ هنا ـ ولا استنتاجات المنطق, هل تتأجج المشاعر الانسانية أو تخبو وفقاً لاستخلاصات المنطق وأحكام العقل؟! فاذا كان الغياب الأبدي للأحباء يقهرنا، نحن الأحياء، ويصدّع قلوبنا من دون أن نجد الى رأبها سبيلاً ولو بعد سنوات وسنوات كثيرة، اذ تنكأ أحزاننا كلمة تُقال، ويهيّج مشاعرنا مشهدٌ عابر، ويعاود تذكيرنا بالأسى شيءٌ، أو حادثٌ، أو وجهٌ، أو لحنٌ، فنتوق بتحرّق الى الغائب ونرجو من أعماقنا لو يعاود حضوره لحظة,,, اذا كانت الحال كذلك فلا بدَّ من ابتكار وهمٍ، من صناعة خدعة، من الرد على قهر الغياب ولو بحضور كاذب.
ربما لهذا نحتفظ بالصور والقلائد والأشياء الخاصة بالغائبين عنّا, ربما لهذا نحرص أشدّ الحرص على شريط مسجّل لأصواتهم، أيّ شيء «يعيدهم» الينا من غيابهم، ولو قطعة خشب صغيرة ـ كما يفعل اليابانيون ـ يخطّ عليها كاهن المعبد البوذي الصفة الأبرز للغائب كي يشارك مَنْ تبقّى الحضورَ والحياةَ في منازلهم.
والى ذلك، وربما أهم منه، هي حاجتنا الماسّة الى رفع الصوت الطليق، والبوح علانية بما يعتمل فينا، واظهار مشاعرنا بلا تحفظ ولا تخوّف ولا خجل من آخرين, فالصوت والمشاعر والحاجة الى التعبير الصريح الحرّ تخنقها الرقابة والتحفظات، بل هي تكثّفها وتضخّمها فيزداد الحاحها علينا، وننوء تحت عبء التكتّم عليها الى الحدّ الذي تتحوّل فيه الى طاقة هائلة تنتظر اللحظة المناسبة لتتفجّر وتنعتق من القيود المفروضة عليها.
واذا كان من العبث طيّ مشاعر الشوق ورغبات التعبير الصريح لدى الأحياء ازاء أحبائهم الراحلين، فالأكثر عبثية ومضيعة للوقت كتم أصوات الأحياء ومواقفهم وآرائهم ومشاعرهم وقهرها بالمنع والقمع والزجر ازاء ما هو حيّ نابض مما يتعلق بعيشهم أو مسكنهم أو أوضاعهم المختلفة أو مصائر بلادهم أو مآلات حيواتهم!
تُرى,,, كيف صار للسادة عتاة القمع والديكتاتورية والارهاب أن يخدعوا أنفسهم فيصدقوا بأن استمرار بطشهم من شأنه اماتة أرواح الأحياء، وتبديد طاقة التعبير فيهم ومصادرة كل «حيلة» لديهم وهم، حتى في ما يتعلق بالموت والغائبين، لم يكفّوا عن المحاولات تلو المحاولات لاطلاق مشاعرهم ودواخلهم وأصواتهم حرة بلا قيود!.