[align=center]
اليوم، الرابع والعشرون من ديسمبر /كانون الأول، رحل الشاعر العراقي بدر شاكر السياب قبل أربعين عاماً، وحيداً إلا من نفر من الأصدقاء فى المستشفى الاميرى بالكويت، ودفن في مقبرة الحسن البصري شبه وحيد ومهجور ومعدم تماماً. لقد امتلأت حياة رائد الشعر العربي الحديث بالمفارقات العجيبة، لكن موته كان المفارقة الكبرى، وكأنه بعث من جديد، بينما خفتت أصوات كثيرة ارتفعت لحين حتى غطت على صوته
عاش منذ طفولته سلسلة من الخيبات والمآسي،في سلة أوجاع حفلت بها حياته، التي استمرت ثمانٍ وثلاثين سنة، بين وجع الطفولة المعذبة، وجع الفقر، وجع الأحوال السياسية والظلم، وجع الفشل في الحب والزواج، وجع المرض والغربة، ووجع رهاب الموت، كانت أيام السياب. عاش موجوعاً ومات وقد فتح الباب على مصراعيه لتصبح القصيدة الحرة منهجاً أدبياً جديداً للأجيال من بعده ويحرر الشعر العربي من رقِّ أوزان وبحور العرب التقليدية.
انخرط في العمل السياسي وأخفق، ثم استسلم لوضع مادي قاهر أوصله سريعا لمستوى مؤلم من الفقر والحاجة، كل ذلك وتفاصيل أخرى أشد قتامة جعلت من شعره ملحمة عذاب ووجع وشكوى، فجاءت قصائده إيقاعات صوتية حزينة تنزف بالألم والحرمان.
عجز عن السيطرة على مصيره القاتم، قارع الظلم، وتحمل إذلال السجن ومرارة النفي، واليتم، والفشل والنبذ، والغربة، ثم المرض، الذي قاد سفينته في بحور عنيدة عتية ألقت به وبها أخيرا على الصخور الحادة فسقط (جلجامش) عند أسوار مدينة أور.
طفولته ونشأته:
ولد الشاعر بدر شاكر السياب عام 1926، في قرية "جيكور" جنوب شرق محافظة البصرة بالعراق، ولم يهنأ بطفولته طويلاً، حيث مزقتها رياح المآسي باكراً، وبدأت بموت أمه بعد ست سنواتٍ من ولادته، وتلتها جدته، ثم زواج أبيه، ففقد الحنان باكراً، وعاش غريباً طوال عمره، ونقش الحزن في روحه وشماً لم ينمحي بمرور الأيام:
"أمَّاه.. ليتك لم تغيبي خلف سور من حجار
لا باب فيه لكي أدق ولا نوافذ في الجدار
كيف انطلقت بلا وداع فالصغار يولولون
يتراكضون على الطريق ويفزعون فيرجعون
ويسائلون الليل عنك وهم لعودك في انتظار
الباب تقرعه الرياح لعل روحا منك زار
هذا الغريب!! هو ابنك السهران يحرقه الحنين
أماه ليتك ترجعين"
وكان في طفولته، يحب مراقبة السفن والمراكب، وهي تصعد إلى البصرة، أو تنحدر إلى الخليج العربي، وتركت حكايات جدته الأسطورية أثراً في نفسه ظهر لاحقاً في قصائده.
عمله وبداية اضطراب حياته:
يتخرج السياب ويعين مدرساً للغة الإنجليزية في مدرسة ثانوية في مدينة الرمادي التي تبعد عن بغداد تسعين كيلومتراً غربا، تقع على نهر الفرات. وظل يرسل منها قصائده إلى الصحف البغدادية تباعاً، وفى يناير 1949 ألقي عليه القـبض في جيكور أثناء عطلة نصف السنة ونقل إلى سجن بغداد واستغني عن خدماته في وزارة المعارف رسمياً فى25 يناير 1949 وأفرج عنه بكفالة بعد بضعة أسابيع ومنع إدارياً من التدريس لمدة عشر سنوات، فعاد إلى قريته يرجو شيئا من الراحة بعد المعاملة القاسية التي لقيها في السجن.
ثم توجه إلى البصرة ليعمل كذواقٍ للتمر في شركة التمور العراقية، ثم كاتباً في شركة نفط البصرة، وفى هذه الأيام ذاق مرارة الفقر والظلم والشقاء ولم ينشر شعراً قط، ليعود إلى بغداد يكابد البطالة يجتر نهاراته في مقهى حسن عجمي يتلقى المعونة من أصحابه اكرم الوتري ومحي الدين إسماعيل وخالد الشواف، عمل بعدها مأموراً في مخزن لإحدى شركات تعبيد الطرق في بغداد.
وهكذا ظل يتنقل من عمل يومي إلى آخر، وفى عام 1950 ينشر له الخاقاني مجموعته الثانية "أساطير" بتشجيع من أكرم الوتري مما أعاد إلى روحه هناءتها وأملها بالحياة.
ويضطرب الوضع السياسي في بغداد عام 1952 ويخشى بدر أن تطاله حملة الاعتقالات فيهرب متخفياً إلى إيران ومنها إلى الكويت بجواز سفر إيراني مزور على ظهر سفينة شراعية انطلقت من عبادان في يناير 1953، وهناك وجد له وظيفة مكتبية في شركة كهرباء الكويت حيث عاش حياة اللاجئ الذي يحن بلا انقطاع إلى أهله ووطنه، وكتب هناك قصيدة غريب على الخليج:
"جلس الغريب، يسرح البصر المحير في الخليج
ويهد أعمدة الضياء بما يصعد من نشيج
أعلى من العباب يهدر رغوه ومن الضجيج
صوت تفجر في قرارة نفسي الثكلى: عراق
كالمد يصعد
كالسحابة
كالدموع إلى العيون
الريح تصرخ بي: عراق
والموج يعول بي: عراق
عراق
ليس سوى عراق
البحر أوسع ما يكون
وأنت أبعد ما يكون
و البحر دونك يا عراق"
يعود السياب إلى بغداد بعد انقضاء عدة اشهر على هربه منها، ويلتقي بأصدقائه القدامى، ويقطع صلته بالحركة السياسية التي كان ينتمي إليها بعد تجربته المريرة في الكويت، ثم يصدر أمر وزاري بتعيينه في مديرية الاستيراد والتصدير العامة، ويستأجر بيتاً متواضعاً في بغداد.
"كان عمري كله انتظارا للمرأة المنشودة
كان حلمي أن يكون لي بيت أجد فيه الراحة والطمأنينة"
تزوج السياب عام 1955من "إقبال" وهي إحدى قريباته وعاشوا في بغداد، وأحبها فكان لها الزوج المثالي الوفي، وكانت هي كذلك، فقد أنجبت منه غيداء وغيلان وآلاء، ولمَّا أصابه المرض كانت مثال المرأة الحنونة، المحتملة كل متاعب وآلام الحياة.
مرضه:
فى السابع من أبريل 1959 فصل السياب من الخدمة الحكومية لمدة ثلاث سنوات بأمر وزاري لتبدأ من جديد رحلة التشرد والفقر.
وفي يوليو 1960 يذهب إلى بيروت لنشر مجموعة من شعره هناك، وتوافق وجوده مع مسابقة مجلة شعر لأفضل مجموعة مخطوطة فدفع بها إلى المسابقة ليفوز بجائزتها الأولى عن مجموعته أنشودة المطر التي صدرت عن دار شعر بعد ذلك، وعاد إلى بغداد بعد أن ألغي فصله وعين في مصلحة الموانئ العراقية لينتقل إلى البصرة ويقطن في دار تابعة للمصلحة وبدأت صحته تتأثر من ضغط العمل المضني والتوتر النفسي، غير انه اعتقل ثانية في 4 فبراير 1961 ليطلق سراحه في 20 من الشهر نفسه، وأعيد تعيينه في المصلحة نفسها، غير أن صحته استمرت بالتدهور فقد بدا يجد صعوبة في تحريك رجليه كلتيهما وامتد الألم في القسم الأسفل من ظهره.
في عام 1961 تسلم دعوة للاشتراك في مؤتمر للأدب المعاصر ينعقد في روما برعاية المنظمة العالمية لحرية الثقافة ويعود إلى بغداد ومن ثم إلى البصرة حيث الدار التي يقطنها منذ تعين في مصلحة الموانئ، يكابد أهوال المرض إذ لم يعد قادرا على المشي إلا إذا ساعده أحد الناس ولم يعد أمامه سوى السفر وهكذا عاد إلى بيروت في أبريل 1962 وأدخل مستشفى الجامعة الأمريكية في بيروت، وبعد محاولات فاشلة لتشخيص مرضه غادر المستشفى بعد أسبوعين من دخوله إليه.
ويزوره أكثر من طبيب في مرضه الميؤوس منه، وتنفد النقود التي تبرع بها أصدقاؤه له، وينشر له أصحابه ديوانه المعبد الغريق عن دار العلم للملايين لكن الدخل الضئيل الذي جناه منه لم يسد نفقات علاجه، وازدادت حاله سوءا وابتدأت فكرة الموت تلح عليه وتظهر جلياً ثنائية المرض والموت في قصائده. ويعود بعدها مدمراً نهاية سبتمبر 1962 تلاحقه الديون إلى البصرة، وتكفلت المنظمة العالمية لحرية الثقافة بنفقاته لعام كامل بعد أن رتبت له بعثة دراسية
وفى15 مارس 1963 طار إلى باريس في طريق العودة إلى الوطن تحت إلحاح زوجته ورسائلها التي تصف الحالة المزرية التي ترزح تحت وطأتها العائلة، وفى باريس عرفه أصحابه بلا جدوى على عدد من الأطباء الفرنسيين، وفى 23 مارس 1963 غادر باريس على كرسي متحرك من مطار أورلي متجهاً للبصرة.
ولم يمر أسبوعان على وصول بدر إلى البصرة، حتى فصل من الخدمة الحكومية لمدة ثلاث سنوات ابتداء من 4 أبريل 1963 وكانت هذه صدمة شديدة زادت من هموم بدر، ولم تتحسن صحته على الرغم من أنه واصل اخذ الدواء الذي وصفه له الدكتور في باريس. وكان يستصعب المشي الآن حتى بعكاز، وقد وقع على الأرض مرارا وهو يحاول المشي جارّاً قدميه.
وعندما توفي والده في عام 1963 لم يستطع أن يذهب إلى المسجد لحضور جنازته. وكان يقضي معظم وقته في البيت
وأعد تعيينه في وظيفته السابقة في مصلحة الموانئ العراقية في 11 يوليو 1963
وفي 9 فبراير 1964 أصبح في حالة صحية حرجة استدعت إدخاله إلى مستشفي الموانئ في البصرة، وهو يعاني ارتفاع حرارته إلى أربعين درجة مئوية، بالإضافة إلى عسر في التنفس مع ازرقاق الشفتين وسعال شديد وبعد الفحص تبين أنه مصاب بذات الرئة المزدوجة وبداية خذلان القلب، بالإضافة إلى شلل أطرافه السفلى وهزاله الشديد، فوضع مدة أسبوع كامل تحت المعالجة الخاصة بالحالات الطارئة الحرجة في المستشفى الحكومي، وبعد أن زال الخطر عن حياته مباشرة، وبعد أن بدأت حالة قلبه ورئتيه تتحسن وسافر إلى الكويت بعدما تدهورت صحته مرة أخرى وأدخل المستشفى الأميري في الحال ووضع في غرفة خاصة و أحيط بكل عناية واهتمام، وزارته زوجته إقبال وأولاده بالكويت، وكانت إقبال تزور زوجها في المستشفى كل يوم فتؤنسه وتخدمه وكانت رؤية أطفاله تدمي قلبه على رغم ما كانت تدخل إليه من سعادة. فقد كان يعلم أنه سيموت ويتركهم وراءه، وعادت زوجته و أطفاله إلى العراق بعد ثمانية عشر يوماً.
وكان بدر خلال اقامته في المستشفى يكسب بعض المال بنشر قصائده في الصحف الكويتية التي كانت تدفع له جيدا.
وهبطت صحته هبوطا شديدا. وفقد الشهية للطعام وزاد هزاله. وعلى الرغم من تعاطي الأدوية المقوية فقد بلغ ضعفه درجه أصبح معها يجد صعوبة في الكلام أحياناً.
وأصيب بكسر في عنق عضل فخذه اليسرى بينما كانت المدلكة تقوم بتدليكه، وذلك لذوبان الكلس في العظام
وفي سبتمبر 1964 أصيب مرتين بالنزلة الصدرية وصل فيها إلى حالة خطيرة كادت تودي بحياته لولا العلاجات التي أعطيت له بكميات كبيرة، وفي أواخر سبتمبر 1964 عندما لم يكن بعد قد تغلب على نزلته الصدرية أرسلت له مصلحة الموانئ العراقية في البصرة رسالة تخبره فيها أنه ابتداء من بعد ظهر 27 أيلول 1964 انتهت مدة أجازته المرضية البالغة 180 يوما بدون راتب، وأنه لعدم استئنافه العمل أحيل على التقاعد ولم يكن أثر هذه الرسالة في بدر حسناً بالطبع.
وفي أكتوبر 1964 بلغ الضعف حدا لم يعد منه قادرا على الأكل، واستوجبت الحالة تغذيته بواسطة أنابيب تدلى من أنفه. وبدأت تنتاب بدرا نوبات من الهذيان و التصورات الوهمية، فان هزاله وضعفه الشديد و اضطراب جهازه العصبي بدأت تؤثر في دماغه، ولم يتعرف على كثيرين من أصدقائه ومعارفه عندما كانوا يزورونه
وبدأت تنتابه حالات إغماء وفقدان الوعي كانت تدوم ساعات فإذا صحا كان كامل الوعي متمالكا لقواه العقلية لا ينقصه شيء سوى قواه الجسدية.
رحيله:
رحل بدر شاكر السياب يوم 24 ديسمبر 1964، وووري الثرى في مقبرة الحسن البصري بالبصرة.
وترك للأجيال من بعده شعراً يشكل ملحمة عذاب ووجع وشكوى، وجاءت قصائده إيقاعات حزينة تنزف بالألم والحرمان.
من دواوينه:
1- أزهار ذابلة.
2- أساطير.
3- حفار القبور.
4- المومس العمياء.
5- الأسلحة والأطفال.
6- أنشودة المطر.
7- المعبد الغريق.
8- منزل الأقنان.
9- أزهار وأساطير.
10- شناشيل بنت الجلبي.
11- إقبال.
12- قيثارة الريح.
13- أعاصير.
14- الهدايا.
15- البواكير.
16- فجر السلام.[/align]