[frame="5 80"]والعقل أيضاً في خطر...
من الضروريات الخمس التي جاءت بها الشريعة حفظ العقل ، و حفظ الشئ لا يكون بحمايته فقط من أي اعتداء يقع عليه ، و إنما يكون أيضاً بتنميته و استثماره لئلا يفقد مرونته و يُصاب بالتجمد ،
و تنمية العقل و استثمار طاقاته و إمكاناته تؤمن الحفاظ عليه من خلال قدرته التي تنمو مع الأيام و مع الخبرات المتراكمة ، فيتأهل للتمييز و الفصل و التحقيق و النظر و الاستقراء و التحليل ، فلا يتلقى كل ما يرد إليه دون بحثٍ و تدقيق .
و مع وجود الإيمان بالله تعالى و الذي يلعب دوراً قوياً في التثبيت و الترسيخ و التأصيل ، عندها يكون المسلم في أعلى درجات اللياقة سواء في المبادرة ، أو في قدراته الدفاعية عن دينه و مقدساته و ذاته .
من دون ذلك ، تصبح تلك المؤهلات محل نظر .
و القرآن لطالما خاطب العقل ، فالدعوة إلى الله تعالى و توحيده لم تكن بمنأى عنه ، و إنما اشتملت على ما يثيره و يُفعله (أأرباب متفرقون خير) ، (فلما أفلت قال يا قوم) ، (ضرب الله مثلاً) ، فإذا صح العقل صح ما ورائه .
و حيث أن القوة التي أُمرنا بإعدادها لمواجهة أعدائنا (و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة) جاءت نكرة فهي تشمل كل أنواع القوى ، و بالجملة يدخل فيها قوة العقل و سلامته .
و العقل هو محل التخطيط و التدبير ، فلو افترضنا مثلاً أن شخصاً قوياً في جسده ، سليم البنية ، ذو مال ، محافظ على الفروض و الواجبات ، و يمتلك سلاحاً و عتاداً –و مع أهمية و ضرورة تلك المقومات- ولكنه ضعيفٌ في عقله ، فإن ذلك يخصم الكثير من رصيده عند المواجهة .
و العقل إذا ما تم غزوه و الاستيلاء عليه فقد تم الاستيلاء على العقل و النفس و المال و الفكر و المقدسات ،
و المسجد الأقصى في خطر ... نعم ، و لكن المسلم المناط به تحريره ، عقله في خطرٍ اكبر ، و فاقد الشئ لا يعطيه ، و من لا يملك عقله و فكره لا يملك حريته .
و لئن كان العقل الذي لا يتبنى الإسلام كحلٍ شامل لكل ما نعانيه في هذه الحقبة من الزمن ، ويتبنى مقابل ذلك الكثير من أنماط الغرب كمخرج للأزمات التي تعصف بأمتنا ، لهو في خطرٍ محدق ،
فإن الأشد خطورة هو ما يحيق بالعقلية التي انتهجت الإسلام سبيلاً أوحد لصناعة هذه الحياة ، و يزداد الأمر سوءاً إذا ما رأت أن ما هي عليه هو الصواب لا غير .
و من المظاهر التي تتسم بها هذه العقلية
رؤيتها أن مجرد المساس بالأعراف و العادات و التقاليد و إن لم يكن لها من الشرع حظٌ و لا نصيب ، أن ذلك معصية و تجاوز لحدود الله تعالى يستلزم المسارعة بالتوبة و العزم على عدم العودة !
أن أي مناقشة لأِوضاعنا في محاولة للإصلاح ستثير الفتن و الضلالات ، و السكوت عن ذلك أولى طلباً للسلامة و حفاظاً للوضع على ما هو عليه ، فلا نمنح الغرب المتآمر علينا دوماً الإحساس بالنجاح ، فيتوقف ! و لا يفكر في مؤامرة ثالثة و رابعة .
أنه لا بد من وجود المجتمع الصالح الحاكم بشرع الله تعالى أولاُ ، لننطلق بعد ذلك لصناعة الحياة ، أما قبل ذلك فلا علاقة لنا بهذه الحياة من قريب أو بعيد إلا ما أتيح لنا العمل من خلال أجواء مثالية متعالية و مجتزأة عن واقعنا ، و لتجد أنك أمام معضلة حقيقية ، إذ كيف يستقيم هذا الفهم و قوله تعالى (هو الذي أنشأكم من الأرض و استعمركم فيها) .
إن كل ما لم يكن معروفاً لدى المسلمين من وسائل فلا حاجة لنا فيه ، و العيش خارج الزمن أفضل من المغامرة بتحديث العقل لتفهم هذه الوسائل و استيعابها و التي هي في الأصل اجتهادية لها حكم المقاصد ، فلا يرضى لها إلا التوقف و التوقيف.
تصنيف الأمة ، فاللمستقيم شأن و لغيره شأن آخر ، و تبني الفصل و المقاطعة ، فلا حاجة لنا في أنديتهم و أسواقهم و مجالسهم و لياليهم ...الخ ، مع أن الحبيب صلى الله عليه و سلم ما ترك قوماً إلا و تحدث إليهم ، و ما سنحت له فرصة إلا و دعى إلى الله تعالى .
إن ممارسة النقد لطرح العالِم أو المفكر أو المصلح هي تجريح له ، و تجاوز لحدود الأدب معه ، و ليقبع العقل دوماً في دائرة التلقي و الشكر و الثناء و العرفان ، لا يتجاوب و لا يتفاعل ، و لا مجال للتأسي بالحباب و سلمان ، ثم نقعد نتغنى و نتمنى ما عند الغرب من ديمقراطية و حرية في الرأي و كأنهم ابتدعوها و لا أصل لها عندنا .
أن أي مراجعة للنفس أو الموقف أو الفكرة و استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير ، هو تذبذب و عدم ثبات على المبدأ و مساومة عليه ، فالجمود الفكري و الذي يحظى بتصفيق الأغلبية ! أفضل بكثير من تحمل العبء الناتج عن فداحة الخسارة بفقد هذا التصفيق و ألحانه العذبة التي تطرب الآذان فقط ، أما طرب العقول فهذا له جمهور آخر لا يتقن و لا يفي بحاجة الأول .
إذا تحرر العقل من الأخطار التي تهدده ، سيتحرر المسلم و سيتحرر الأقصى و كل مقدساتنا [/frame]