أنواع العذاب لآل فرعون
{وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ(130)فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ(131)وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ ءايَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ(132)فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ ءايَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ(133)}
{وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} اللام موطئة لقسم محذوف أي والله لقد ابتلينا واختبرنا فرعون وأتباعه بالجدب والقحط {وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} أي وابتليناهم بإِذهاب الثمار من كثرة الآفات، قال المفسرون: كانت النخلة لا تحمل إلا ثمرة واحدة {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} أي لعلهم يتعظون وترقُّ قلوبهم فإِن الشدة تجلب الإِنابة والخشية ورقة القلب، ثم بيّن تعالى أنهم مع تلك المحن والشدائد لم يزدادوا إِلا تمرداً وكفراً فقال {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ} أي إذا جاءهم الخِصْب والرّخاء قالوا هذه لنا وبسعدنا ونحن مستحقون لذلك {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} أي وإِذا جاءهم الجدب والشدة تشاءموا بموسى ومن معهمن المؤمنين أي قالوا: بشؤمهم قال تعالى رداً عليهم {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} أي إِن ما يصيبهم من خير أو شر بتقدير الله وليس بشؤم موسى، قال ابن عباس: الأمر من قِبَل الله ليس شؤمهم إِلاّ من قِبَله وحكمه {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون أن ما لحقهم من القحط والشدائد من عند الله بسبب معاصيهم لا من عند موسى {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} أي قال قوم فرعون لموسى: أي شيء تأتينا به يا موسى من المعجزات لتصرفنا عما نحن عليه فلن نؤمن لك، قال الزمخشري: فإِن قلت كيف سموها آية ثم قالوا {لِتَسْحَرَنَا بِهَا}؟ قلت: ما سموها آية لاعتقادهم أنها آية وإِنما قصدوا بذلك الاستهزاء والتلهي قال تعالى {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ} أي أرسلنا عليهم المطر الشديد حتى عاموا فيه وكادوا يهلكون، قال ابن عباس: الطوفان كثرة الأمطار المغرقة المتلفة للزروع والثمار {وَالْجَرَادَ} أي وأرسلنا عليهم كذلك الجراد فأكل زروعهم وثمارهم حتى أكل ثيابهم {وَالْقُمَّلَ} وهو السوس حتى نخر حبوبهم وتتّبع ما تركه الجراد وقيل: هو القمل المشهور كان يدخل بين ثوب أحدهم وجلده فيمصه {وَالضَّفَادِعَ} جمع ضفدع حتى ملأت بيوتهم وطعامهم وإِذا تكلم أحدهم وثبت الضفدع إِلى فمه {وَالدَّمَ} أي صارت مياههم دماً فما يستقون من بئر ولا نهر إِلا وجدوه دماً {ءايَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} أي علامات ظاهرات فيها عبرٌ وعظاتٌ ومع ذلك استكبروا عن الإِيمان {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} أي استكبروا عن الإِيمان بها لغلوهم في الإِجرام.
الرجوع إلى موسى عليه السلام عند وقوع العذاب، وإغراق فرعون وقومه
{وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ(134)فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ(135)فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ(136)}
{وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ} أي وحين نزل بهم العذاب المذكور {قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} أي ادع لنا ربك ليكشف عنا البلاء بحق ما أكرمك به من النبوة، قال الزمخشري: أي أسعفنا إِلى ما نطلب إِليك من الدعاء لنا بحق ما عندك من عهد الله وكرامته بالنبوة {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} اللام لام القسم أي والله لئن رفعت عنا العذاب الذي نحن فيه يا موسى لنصدقنَّ بما جئت به ولنطلقنَّ سراح بني إسرائيل، وقد كانوا يستخدمونهم في أرذل الأعمال {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ} أي فلما كشفنا بدعاء موسى عنهم العذاب إِلى حدٍّ من الزمان هم واصلون إِليه ولا بدَّ. قال ابن عباس: هو وقت الغَرق {إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} أي إِذا هم ينقضون عهودهم ويصرّون على الكفر {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} أي فانتقمنا منهم بالإِغراق في البحر {بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} أي بسبب تكذيبهم بآيات الله وإِعراضهم عنها وعدم مبالاتهم بها.
وراثة الأرض لبني إسرائيل
{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ(137)}.
{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} أي وأورثنا بني إِسرائيل الذين كانوا يُستذلون بالخدمة أرض الشام وملّكناهم جميع جهاتها ونواحيها: مشارقها ومغاربها {الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} بالخيرات وكثرة الثمرات {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي تمَّ وعد الله الصادق بالتمكين لبني إِسرائيل في الأرض ونصره إِياهم على عدوهم، قال الطبري: وكلمتُه الحسنى هي قوله جل ثناؤه {ونريد أن نُمنَّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ..} الآية {بِمَا صَبَرُوا} أي بسبب صبرهم على الأذى {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} أي خرّبنا ودمّرنا القصور والعمارات التي كان يشيدها فرعون وجماعته وما كانوا يعرشون من الجنّات والمزارع.
جحود بني إسرائيل النعم الكثيرة
{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ(138)إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(139)قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ(140)وَإِذْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ ءالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ(141)}
وإِلى هنا تنتهي قصة فرعون وقومه ويبتدئ الحديث عن بني إِسرائيل وما أغدق الله عليهم من النعم الجسام، وأراهم من الآيات العظام، تسليةً لرسوله عليه الصلاة والسلام مما رآه منهم قال تعالى {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} أي عبرنا ببني إِسرائيل البحر وهو بحر القُلْزم عند خليج السويس الآن {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} أي مروا على قوم يلازمون على عبادة أصنام لهم {قَالُوا يَامُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ} أي اجعل لنا صنماً نعبده كما لهم أصنام يعبدونها، قال ابن عطية: الظاهر أنهم استحسنوا ما رأوا فأرادوا ان يكون ذلك في شرع موسى وفي جملة ما يتقربُ به إلى الله إلا فبعيدٌ أن يقولوا لموسى اجعل لنا إلهاً نُفرده بالعبادة {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} أي إِنكم قوم تجهلون عظمة الله وما يجب أن ينزّه عنه من الشريك والنظير، قال الزمخشري: تعجَّبَ من قولهم على أثر ما رأوا من الآية العظمى، والمعجزة الكبرى فوصفهم بالجهل المطلق وأكّده، لأنه لا جهل أعظم مما رأى منهم ولا أشنع {إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ} أي هالك مدمَّر ما هم فيه من الدين الباطل وهو عبادة الأصنام {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي باطل عملهم مضمحلٌ بالكلية لأنهم عبدوا ما لا يستحق العبادة {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} أي أأطلب لكم معبوداً غير الله المستحق للعبادة والحال أنَّ الله فضَّلكم على غيركم بالنعم الجليلة، قال الطبري: فضَّلكم على عالمي دهركم وزمانكم {وَإِذْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ ءالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} أي واذكروا يا بني إِسرائيل النعم التي سلفت مني إِليكم حين أنجيتكم من قوم فرعون يذيقونكم أفظع أنواع العذاب وأسوأه ثم فسره بقوله {يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} أي يذبحون الذكور ويستبقون الإِناث لامتهانهن في الخدمة {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} أي وفي هذا العذاب اختبار وابتلاء من الله لكم عظيم فنجاكم منه أفلا تشكرونه؟
مناجاة موسى ربه، وطلبه رؤيته تعالى، وتنزيل التوراة عليه
{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ(142)وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ(143)قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ(144)وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ(145)}
{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} أي وعدنا موسى لمناجاتنا ثلاثين ليلة وأكملناها بعشر ليالٍ فتمت المناجاة أربعين ليلة. قال الزمخشري: روي أن موسى وعد بني إِسرائيل وهو بمصر إِن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتابٍ من عند الله فيه بيانُ ما يأتون وما يذرون، فلما هلك فرعونُ سأل موسى ربه الكتاب فأمره بصوم ثلاثين يوماً وهو شهر ذي القعدة فلما أتمَّ الثلاثين أنكر خلوف فمه "تغير رائحته" فتسوّك فأوحى الله تعالى إِليه: أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك فأمره تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة {وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} أي كن خليفتي فيهم إِلى أن أرجع {وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}أي وأصلحْ أمرهم ولا تسلك طريق الذين يفسدون في الأرض بمعصيتهملله {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} أي ولما جاء موسى للوقت الذي وعدناه فيه وناجاه ربه وكلمه من غير واسطة {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} أي أرني ذاتك المقدسة أنظر إليها، قال القرطبي: اشتاق إِلى رؤية ربه لمّا أسمعه كلامه فسأل النظر إِليه {قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} أي أجابه ربه لن تستيطع رؤيتي في الدنيا فإِن هذه البنية البشرية لا طاقة لها بذلك ولكنْ سأتجلّى لما هو أقوى منك وهو الجبل فإِن ثبت الجبل مكانه ولم يتزلزل فسوف تراني أي تثبت لرؤيتي وإِلاّ فلا طاقة لك {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} أي فلما ظهر من نور الله وتجلّيه اندك الجبل وتفتّت وسقط موسى مغشياً عليه من هول ما رأى. وفي الحديث: فساخ الجبل {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} أي فلما صحا من غشيته قال تنزيهاً لك يا رب وتبرئة أن يراك أحدٌ في الدنيا تبتُ إِليك من سؤالي رؤيتك في الدنيا وأنا أول المؤمنين بعظمتك وجلالك { قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} أي اخترتك على أهل زمانك بالرسالة الإِلهية وبتكليمي إِياك بدون واسطة {فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ} أي خذ ما أعطيتك من شرف النبوة والحكمة {وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} واشكر ربك على ما أعطاك من جلائل النعم. قال أبوالسعود: والآية مسوقة لتسليته عليه السلام من عدم الإِجابة إِلى سؤال الرؤية كأنه قيل: إِن منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النعم العظام ما لم اعط أحداً من العالمين فاغتنمها وثابرْ على شكرها {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} أي كتبنا له كل شيء كان بنو إِسرائيل محتاجين إِليه في دينهم من المواعظ وتفصيل الأحكام مبيّنة للحلال والحرام كلُّ ذلك في ألواح التوراة {مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ} أي ليتعظوا بها ويزد جروا وتفصيلاً لكل التكاليف الشرعية {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} أي خذ التوراة بجدٍّ واجتهادٍ شأن أولي العزم {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} أي وأمر بني إِسرائيل بالحث على اختيار الأفضل كالأخذ بالعزائم دون الرخص فالعفو أفضل من القصاص، والصبر أفضل من الانتصار كما قال تعالى {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} قال ابن عباس: أُمر موسى أن يأخذها بأشدّ مما أُمر به قومه {سَأُورِيْكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} أي سترون منازل الفاسقين - فرعون وقومه - كيف أقفرت منهم ودُمِّروا لفسقهم لتعتبروا فلا تكونوا مثلهم، فإِن رؤيتها وهي خالية عن أهلها موجبة للاعتبار والانزجار.
عقوبة المتكبرين بصرفهم عن فهم أدلة العظمة الإلهية
{سَأَصْرِفُ عَنْ ءايَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ ءايَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ(146)وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(147)}
{سَأَصْرِفُ عَنْ ءايَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي سأمنع المتكبرين عن فهم آياتي فلا يتفكرون، ولا يتدبرون بما فيها، وأطمس على قلوبهم عقوبةً لهم على تكبرهم قال الزمخشري: وفيه إِنذار للمخاطبين من عاقبة الذين يُصرفون عن آيات الله لتكبرهم وكفرهم بها لئلا يكونوا مثلهم فيسلك بهم سبيلهم {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ ءايَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} أي وإِن يشاهدوا كل آية قرآنية من الآيات المنزلة عليهم أو يرَوْا كل معجزة ربانية لا يصدقوا بها {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} أي وإِن يروا طريق الهدى والفلاح لا يسلكوه {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} أي وإِن يروا طريق الضلال والفساد سلكوه كقوله {فهديناهم فاستحبوا العمى على الهُدى} {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي ذلك الانحراف عن هَدْي الله وشرعه بسبب تكذيبهم بآيات الله {وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} أي وغفلتهم عن الآيات التي بها سعادتهم حتى لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي جحدوا بما أنزل الله {وَلِقَاءِ الآخِرَةِ} أي وكذبوا بلقاء الله في الآخرة أي لم يؤمنوا بالبعث بعد الموت {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أي بطلت أعمالهم الخيرية التي عملوها في الدنيا من إِحسانٍ وصلة رحم وصدقة وأمثالها وذهب ثوابها لعدم الإِيمان {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي هل يُثابون أو يعاقبون إِلا بما عملوا في الدنيا؟
اتخاذ السامري العجل
{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ(148)وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ(149)}
{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} قال الحافظ ابن كثير: يخبر تعالى عن ضلال من ضلَّ من بني إِسرائيل في عبادتهم العجل الذي اتخذه لهم السامريُّ من الحليّ، فشكّل لهم منه عجلاً جسداً لا روح فيه وقد احتال بإِدخال الريح فيه حتى صار يسمع له خُوار أي صوتُ كصوت البقر ومعنى {مِنْ بَعْدِهِ} أي من بعد ذهاب موسى إِلى الطور لمناجاة ربه {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً} الاستفهام للتقريع والتوبيخ أي كيف عبدوا العجل واتخذوه إِلهاً مع أنه ليس فيه شيء من صفات الخالق الرازق، فإِنه لا يملك قدرة الكلام ولا قدرة هدايتهم إِلى سبيل السعادة فكيف يتخذ إِلهاً؟ {اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} أي عبدوا العجل واتخذوه إِلهاً فكانوا ظالمين لأنفسهم حيث وضعوا الأشياء في غير موضعها، وتكرير لفظ {اتَّخَذُوا} لمزيد التشنيع عليهم {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} أي ندموا على جنايتهم واشتد ندمهم وحسرتهم على عبادة العجل {وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا} أي تبينوا ضلالهم تبيناً جلياً كأنهم أبصروه بعيونهم {قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا} أي لئن لم يتداركنا الله برحمته ومغفرته {لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} أي لنكوننَّ من الهالكين، قال ابن كثير: وهذا اعترافٌ منهم بذنبهم والتجاءٌ إِلى الله عز وجل.
غضب موسى على أخيه هارون وتعنيفه له
{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِي الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(150)قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(151)}
{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ} أي ولما رجع موسى من المناجاة {غَضْبَانَ} مما فعلوه من عبادة العجل {أَسِفًا} أي شديد الحزن {قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي} أي بئس ما فعلتموه بعد غيبتي حيث عبدتم العجل {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} أي أعجلتم عن أمر ربكم وهو انتظار موسى حتى يرجع من الطور؟ والاستفهام للإِنكار {وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} أي طرح الألواح لما عراه من شدة الغم، وفرط الضجر غضباً لله من عبادة العجل، وأخذ بشعر رأس أخيه هارون يجره إليه ظناً منه أنه قصَّر في كفهم عن ذلك وكان عليه السلام شديد الغضب لله سبحانه، قال ابن عباس: لمّا عاين قومه وقد عكفوا على العجل ألقى الألواح فكسرها غضباً لله وأخذ برأس أخيه يجره إليه {قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي} أي قال هارون يا ابن أمي - وهو نداء استعطاف وترفق - إن القوم استذلوني وقهروني وقاربوا قتلي حين نهيتهم عن ذلك فأنا لم أقصّر في نصحهم {فَلا تُشْمِتْ بِي الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي لا تُسئْ إليَّ حتى يُسرَّ الأعداء بي ويشمتوا بإهانتك إليَّ ولا تجعلني في عداد الظالمين بالمؤاخذة أو النسبة إلى التقصير، قال مجاهد: {الظَّالِمِينَ} أي الذين عبدوا العجل {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} لما تحقق لموسى براءة ساحة هارون عليه السلام من التقصير طلب عند ذلك المغفرة له ولأخيه فقال {اغْفِرْ لِي وَلأَخِي} الآية قال الزمخشري: استغفر لنفسه مما فرط منه إلى أخيه، ولأخيه مما عسى أن يكون فرط منه في حين الخلافة، وطلب ألاّ يتفرقا عن رحمته، ولا تزال منتظمة لهما في الدنيا والآخرة.
عقاب الظالمين المتخذين العجل إلهاً، وقبول توبة التائبين
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ(152)وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَءامَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(153)}
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي إن الذين عبدوا العجل - ذكر البقر - واتخذوه إلهاً سيصيبهم غضب شديد من الرحمن، وينالهم في الدنيا الذل والهوان، قال ابن كثير: أما الغضب الذي نال بني إسرائيل فهو أن الله تعالى لن يقبل لهم توبة حتى يقتل بعضُهم بعضاً، وأما الذلة فأعقبهم ذلك ذلاً وصَغَاراً في الحياة الدنيا {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} أي كما جازينا هؤلاء بإِحلال الغضب والإِذلال كذلك نجزي كل من افترى الكذب على الله قال سفيان بن عُيينة: كلُّ صاحب بدعة ذليل {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَءامَنُوا} أي عملوا القبائح والمعاصي ثم تابوا ورجعوا إلى الله من بعد اقترافها وداموا على إيمانهم وأخلصوا فيه {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} أي إنَّ ربك يا محمد من بعد تلك التوبة لغفور لذنوبهم رحيم بهم قال الألوسي: وفي الآية إعلامٌ بأنَّ الذنوب وإن جلّتْ وعظمت فإن عفو الله تعالى وكرمه أعظم وأجلُّ، وما ألطف قول أبي نواس غفر الله تعالى له:
يا ربِّ إنْ عَظُمتْ ذنوبي كثــرةً فلقد علمتُ بأنَّ عفوكَ أعظمُ
إن كانَ لا يَرْجوكَ إلا محســنُ فبمنْ يلوذُ ويستجيرُ المــجرمُ؟
سكون غضب موسى وأخذه الألواح
{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ(154)}
{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} أي سكن غضب موسى على أخيه وقومه {أَخَذَ الأَلْوَاحَ} أي ألواح التوراة التي كان ألقاها {وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ} أي وفيما نُسخ فيها وكُتب هداية للحق ورحمة للخلق بإرشادهم إلى ما فيه سعادة الدارين {لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} أي هذه الرحمة للذين يخافون الله ويخشون عقابه على معاصيه.
اختيار موسى سبعين رجلاً لملاقاة الله
{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ(155)}
{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا} أي اختار موسى من قومه سبعين رجلاً ممن لم يعبدوا العجل للوقت الذي وعده ربه الإِتيان فيه للاعتذار عن عبادة العجل {فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} أي فلما رجف بهم الجبل وصعقوا {قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ} أي قال موسى على وجه التضرع والإِستسلام لأمر الله: لو شئت يا ربِّ أن تهلكنا قبل ذلك لفعلتَ فإِنّا عبيدك وتحت قهرك وأنت تفعل ما تشاء {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا}؟ أي أتهلكنا وسائر بني إسرائيل بما فعل هؤلاء السفهاء السبعون في قولهم: {أرنا الله جهرة}؟ والاستفهام استفهام استعطاف وتذلل فكأنه يقوله: لا تعذبنا يا ألله بذنوب غيرنا قال الطبري في رواية السدي: إن الله أمر موسى عليه السلام أن يأتيه في ناسٍ من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل، ووعدهم موعداً فاختار موسى من قومه سبعين رجلاً على عينه ثم ذهب بهم ليعتذروا فلما أتوا ذلك المكان قالوا: لن نؤمن لك يا موسى حتى نرى الله جهرة، فإِنك قد كلمته فأرناه فأخذتهم الصاعقة فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهُم وقد أهلكتَ خيارهم لو شئت أهلكتَهم من قبل وإياي" أقول: إذا كان هذا قول الأخيار من بني إسرائيل فكيف حال الأشرار منهم؟ نعوذ بالله من خبث اليهود {إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ} أي ما هذه الفتنة التي حدثت لهم إلا محنتك وابتلاؤك تمتحن بها عبادك {تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} أي تضل بهذه المحنة من تشاء إضلاله وتهدي من تشاء هدايته {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} أي أنت يا رب متولي أمورنا وناصرنا وحافظنا فاغفر لنا ما قارفناه من المعاصي وارحمنا برحمتك الواسعة الشاملة {وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} أي أنت خير من صفح وستر، تغفر السيئة وتبدلها بالحسنة.
دعاء موسى عند الرجفة، وربط الإيمان برسالته وبالإيمان برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم
{وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ(156)الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءامَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(157)}
{وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ} هذا من جملة دعاء موسى عليه السلام أي حقّقْ وأثبتْ لنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} أي تبنا ورجعنا إليك من جميع ذنوبنا {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} أي قال تعالى أما عذابي فأصيب به من أشاء من عبادي وأما رحمتي فقد عمَّتْ خلقي كلهم. قال أبو السعود: وفي نسبة الإِصابة إلى العذاب بصيغة المضارع ونسبة السعة إلى الرحمة بصيغة الماضي إيذانٌ بأن الرحمة مقتضى الذات، وأما العذاب فمقتضى معاصي العباد {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} أي سأجعل هذه الرحمة خاصة في الآخرة بالذين يتقون الكفر والمعاصي ويعطون زكاة أموالهم ويصدّقون بجميع الكتب والأنبياء {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ} أي هؤلاء الذين تنالهم الرحمة هم الذين يتبعون محمداً صلى الله عليه وسلم النبيَّ العربي الأمي أي الذي لا يقرأ ولا يكتب، قال البيضاوي: وإنما سمّاه رسولاً بالإِضافة إلى الله تعالى، ونبياً بالإِضافة إلى العباد {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} أي الذي يجدون نعته وصفته في التوراة والإِنجيل. قال ابن كثير: هذه صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتب الأنبياء، بشروا أممهم ببعثته وأمروهم بمتابعته، ولم تزل صفاته موجودة في كتبهم يعرفها علماؤهم وأحبارهم {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ} أي لا يأمر إلا بكل شيء مستحسن ولا ينهى إلا عن كل شيء قبيح {وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} أي يحل لهم ما حرّم عليهم من الأشياء الطيبة بشؤم ظلمهم ويُحرّم عليهم ما يستخبث من نحو الدم والميتة ولحم الخنزير {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} أي يخفف عنهم ما كلفوه من التكاليف الشاقة التي تشبه الأغلال كقتل النفس في التوبة وقطع موضع النجاسة من الثوب والقصاص من القاتل عمداً كان القتل أو خطأً وشبه ذلك {فَالَّذِينَ ءامَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ} أي فالذين صدقوا بمحمد وعظّموه ووقّروه ونصروا دينه {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ} أي واتبعوا قرآنه المنير وشرعه المجيد {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي هم الفائزون بالسعادة السرمدية.
عموم رسالة الإسلام للناس كافة
{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(158)}
{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} هذا بيان لعموم رسالته صلى الله عليه وسلم لجميع الخلق أي قل يا محمد للناس إني رسولٌ من عند الله إلى جميع أهل الأرض {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي المالك لجميع الكائنات {لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِِ وَيُمِيتُ} أي لا ربَّ ولا معبود سواه فهو الإِله القادر على الإِحياء والإِفناء {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي صدّقوا بآيات الله وصدقوا برسوله المبعوث إلى جميع خلقه {النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} أي آمنوا بالنبي الأمي صاحب المعجزات الذي لا يقرأ ولا يكتب المصدق بالكتب التي أنزلها الله عليه وعلى غيره من الأنبياء {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي اسلكوا طريقه واقتفوا أثره رجاء اهتدائكم إلى المطلوب.
أَتباع الحق من قوم موسى، ونعم الله تعالى على بني إسرائيل في صحراء التيه
{وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ(159)وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(160)}
{وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} أي ومن بني اسرائيل جماعة مستقيمون على شريعة الله يهدون الناس بكلمة الحق لا يجورون. قال الزمخشري: لما ذكر تعالى الذين تزلزلوا منهم في الدين وارتابوا حتى أقدموا على العظيمتين: عبادة العجل، وطلب رؤية الله، ذكر أن منهم أمة موقنين ثابتين يهدون الناس بكلمة الحق ويدلونهم ويرشدونهم على الاستقامة {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} أي وفرقنا بني إسرائيل فجعلناهم قبائل شتّى اثنتي عشرة قبيلة من اثني عشر ولداً من أولاد يعقوب. قال أبو حيان: أي فرقناهم وميزّناهم أسباطاً ليرجع أمر كل سبط أي "قبيلة" إلى رئيسه ليخفَّ أمرهم على موسى ولئلا يتحاسدوا فيقع الهرج، ولهذا فجّر لهم اثنتي عشرة عيناً لئلا يتنازعوا ويقتتلوا على الماء، وجعل لك سبطٍ نقيباً ليرجعوا في أمورهم إليه {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ} أي حين استولى عليهم العطش في التيه {أَنِ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} أي أوحينا إِليه أن يضرب الحجر بعصاه فضربه {فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} أي انفجرت من الحجر اثنتا عشرة عيناً من الماء بعدد الأسباط {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} أي قد عرف كل سبطٍ وجماعة منهم عينهم الخاصة بهم، قال الطبري: لا يدخل سبطٌ على غيره في شربه {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ} أي جعلنا الغمام يكنّهم من حر الشمس ويقيهم من أذاها، قال الألوسي: وكان الظلُّ يسير بسيرهم ويسكن بإقامتهم {وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} أي وأكرمناهم بطعام شهي هو {الْمَنَّ} وهي شيء حلوٌ ينزل على الشجر يجمعونه ويأكلونه و{السَّلْوَى} وهو طائر لذيذ اللحم يسمى السُمَّاني، كلُّ ذلك من إفضال الله وإنعامه عليهم دون جهدٍ منهم {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي وقلنا لهم كلوا من هذا الشيء الطيب اللذيذ الذي رزقناكم إياه {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} في الكلام محذوف تقديره: فكفروا بهذه النعم الجليلة وما ظلمونا ولكنْ ظلموا أنفسهم حيث عرّضوها بالكفر لعذاب الله.
أمر بني إسرائيل بسكنى بيت المقدس
{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ(161)فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ(162)}
{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ} أي واذكر لهم حين قلنا لأسلافهم اسكنوا بيت المقدس وكلوا من مطاعمها وثمارها من أي جهة ومن أي مكان شئتم منها {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} أي وقولوا حين دخولكم: يا ألله حُطَّ عنا ذنوبنا {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ} أي نمح عنكم جميع الذنوب التي سلفت منكم{سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} أي وسنزيد من أحسن عمله بامتثال أمر الله وطاعته فوقَ الغفران دخولَ الجنان {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} أي غيَّر الظالمون منهم أمر الله بقولهم كلاماً لا يليق حيث قالوا بدل {حِطَّةٌ} حنطة في شعيرة وبدل أن يدخلوا ساجدين خشوعاً لله دخلوا يزحفون على أستاههم "أدبارهم" سخرية واستهزاء بأوامر الله {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ} أي فأرسلنا عليهم عذاباً من السماء بسبب ظلمهم وعدوانهم المستمر سابقاً ولاحقاً قال أبو السعود: والمراد بالعذاب "الطاعون" روي أنه مات منهم في ساعة واحدة أربعةٌ وعشرون ألفاً.