سموه يدشن فترة حكمه باللقاءات مع الشعب وفعاليات المجتمع الأمير يعتمد الاتصال المباشر بالمواطنين أساساً لتلمس معاناتهم ومشكلاتهم
اللقاء بالشعب وفعاليات المجتمع
لقد وجد الشيخ جابر الاحمد الجابر الصباح امير دولة الكويت ان الخطوة التالية لتحركاته لا بد ان تكون من خلال الاتصال المباشر بالمواطنين، سواء أكان على المستوى الرسمي ام الشعبي، ذلك لان معاناة الناس ومشاكلهم لا يمكن تلمسها والاحساس بها الا عن قرب، ومن خلال المعايشة الشخصية لها، وان الافكار والمبادىء والبرنامج المستقبلي الذي طرحه في كلمته السياسية، ووجهه للشعب الكويتي بمناسبة انتهاء فترة الحداد الرسمي على الامير الراحل الشيخ صباح السالم الصباح، لا بد ان تصل الى كل مواطن والى جميع شرائح المجتمع، وذلك في محاولة للوقوف على ردود الفعل لتلك الكلمة التي حاولت ان تحدد معالم المسيرة الكويتية المستقبلية.
نقول، من هذا المنطلق كان للشيخ جابر الاحمد زيارات ولقاءات مع المواطنين في مناطق سكنهم، اتيحت الفرصة فيها لكل مواطن ان يعبر عما يختلج في صدره، وان يسأل ما يريد في جو اسري، وعلاقات تسودها الديموقراطية والكلمة الصادقة، وكانت اجاباته وردوده على تلك التساؤلات بمثابة اشارة للمراقبين عما كان يريد ان يقوله لابنائه وشعبه، وماهي الرسالة التي كان يحملها لتصل اليهم نقية صافية في لقاء الوجه للوجه.
ففي 24 ابريل عام 1978م كان للشيخ جابر الاحمد لقاء مع الرعيل الاول، رجال البحر، جمعهم في مأدبة عشاء اقامها لهم في منزله بقصر دسمان، وكان له كلمة في هذا اللقاء، نذكر منها: «... يسعدني جدا ان اجتمع بالرعيل الاول، وفي الواقع انهم يمثلون آباء لي، وفيهم من يمثل اخوانا لي، واني اؤكد بأنني دائما لهم، ولا احب ان اسمع بان هناك مظلوما او محتاجا او عنده مشكلة، فبابي مفتوح لكم جميعا فاعتبروني ابنا لكم، وهذا في الواقع لا ينطبق فقط عليكم انتم بالذات، بل على كل كويتي، ارجو الله ـ سبحانه وتعالى ـ ان يوفقنا لما فيه خير هذا البلد وعزته»....
وبتاريخ 26 ابريل عام 1978م كان للشيخ جابر الاحمد لقاء مع الضباط في سلاح الطيران والدفاع الجوي الكويتي، حيث تفقد قاعدة احمد الجابر الجوية مستمعا الى شرح مفصل من كبار ضباط سلاح الطيران عن طبيعة وسير العمل. وقد القى في هذه الزيارة كلمة، جاء فيها: «... لقد أثلج صدري ما رأيته اليوم في سلاح الطيران والدفاع الجوي، حيث انه احد المرافق الاساسية لحماية بلادنا وامتنا العربية، وان ما رأيته اليوم ليدل على ايمان وتصميم شبابنا ورجالنا على الذود عن بلادهم وامتهم العربية»...
ويمضي مؤكدا: «... انني أحرص دائما على الاتصال بفئات الشعب كافة حتى نكون اقرب الى بعضنا، ونوثق روح الاسرة الواحدة التي بيننا، وانني على ثقة من ان شبابنا قادر على تحمّل مسؤولية الدفاع عن الوطن والامة، ولن تكون زيارتي هذه لكم الاخيرة، بل سأزوركم مرات عديدة، وأتمنى للجميع في القوات المسلحة كل توفيق في كل خطواتهم الهادفة الى حماية هذا الوطن، وهذا الشعب، وهذه الامة»...
وبتاريخ 2 مايو عام 1978م التقى الشيخ جابر الاحمد مع رئيس واعضاء مجلس الادارة الجديد لجمعية الصحفيين الكويتية، فتحدث اليهم بانفتاح وصراحة كاملة، قائلا: «... اننا نريد من الصحافة الكويتية ان تكون عامل بناء دائما، وهذا لا يعني اننا نصادر حق النقد، بل اننا نرى ضرورة قيام الصحافة بالنقد البناء»...
ويضيف قائلا: «... انني اتابع ما تكتبه الصحف الكويتية، وأبحث عن النقد، لانني كمسؤول لا يمكن ان ألم بكل شيء، ولهذا فانني اعتمد على ما تكتبه الصحف من نقد، ومن هنا، فانني ارجو ان تكون صحافتنا على مستوى المسؤولية، وان تناقش مشاكل الكويت بكل موضوعية، وتوجه المسؤولين الى ما فيه مصلحة الكويت، وهذا يستدعي ان تكون هناك علاقة بين الصحافة والمسؤولين»...
ويستطرد في الحديث فيقول: «... انني من جانبي على استعداد، وفي اي وقت، لاستقبالكم وسماع مشاكلكم، كما ارجو ان تكون لكم لقاءات مع المسؤولين، وتأكدوا انهم يرحبون بذلك، سواء سمو ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء او الوزراء او اي مسؤول في الدولة، لان الصحافة لها دور كبير في رصد اتجاهات الرأي العام، وهذا يهمنا...».
وبتاريخ 8 يونيو عام 1978م قام الشيخ جابر الاحمد بزيارة محافظة الفروانية، حيث التقى هناك بابنائه ورجالات المنطقة، وذلك للوقوف والاطلاع عن كثب على اوضاع المنطقة ومشاكلها الحياتية، ففي حديثه مع المواطنين هناك، اشار: «... ان زيارتي لبعض المناطق التي تنقصها أمور كثيرة من الخدمات هي لتأكيد رعايتنا لهذه المناطق حتى تصل للمستوى المطلوب، كما هي الحال في المدينة....».
ويمضي قائلا: «... انه امر طبيعي في كل بلدان العالم ان تنمو العواصم قبل غيرها من المناطق الاخرى، لكن الواجب يحتم ان تنمو كل المناطق، وتنهض معا»...
ويحاول ان يلامس الواقع، فيقول: «... انني لم احضر هنا لألقي كلمات او خطب، بل جئت اليكم وانا مؤمن بالعمل الجاد والمثمر، ولا تفرقة عندي بين المدينة والقرية لان الجميع سواسية، وجميعكم اخوة اعزاء عندي...».
ويختتم حديثه بالقول: «... من الطبيعي ان ينظر الانسان للمفاهيم نظرة الحريص على تحقيقها، وهدفنا هو الصالح العام، وانني ادعوكم الآن لترك الرسميات واطلب منكم حوارا مفتوحا، فدعونا نتحدث في محبة وسعادة من اجل رفع مستوى الوطن والمواطن»...
وبتاريخ 10 يونيو عام 1978م كان للشيخ جابر الاحمد لقاء مع مواطني محافظة الاحمدي، حيث تحدث اليهم قائلا: «... الحقيقة انني سعيد بالاجتماع مع اخوة لي اليوم، كما استمعت لاخوة لهم في الاسبوع الماضي. وفي الواقع ـ كما ذكرت في لقائي السابق ـ انني لا اريد القاء الكلمات او الخطب، وانما نحن في ديوانية كبيرة نستمع ونبحث عن الحقيقة. فهناك امور عديدة يجب ان تتوفر لكم في المنطقة.. أمور تهم الجميع وللصالح العام. اما الامور الخاصة او التي تهم فرداً معيناً، فلا مجال هنا لطرحها . ان ما يجب الاستماع اليه هو امور المنطقة التي تهمنا بشكل عام... هذه الامور هي التي اريد بحثها هنا مع اخواني ابناء المنطقة...».
وحول ذكرياته في هذه المحافظة قال: «.... ان محافظة الاحمدي لها وقع عزيز على نفسي، لانها كانت اول عمل رسمي لي، حينما كانت مدينة الاحمدي مجرد بيوت متناثرة من الخيام والبيوت الخشبية. وان عملنا بهذه المدينة ـ آنذاك ـ لم يدفعنا للتأفف والاحتجاج، بل ان خدمة الوطن دفعتنا للعمل في اي مكان وفي اي موقع..».
وبتاريخ 18 يونيو عام 1978م كان للشيخ جابر الاحمد لقاء مع مواطني محافظة الجهراء اكد فيه على اهمية روح التعاون والاخوة المستمرة بين ابناء الشعب الكويتي. وقال في معرض حديثه لاهالي المنطقة«... الحقيقة كما سعدت بلقاء اخوان لكم في المناطق التي زرتها، يسعدني ان ازور اخواني في هذه المنطقة.
ان مثل هذه الزيارات في الواقع يجب ان تستمر لمعرفة ما يجري، ومعرفة المتطلبات التي تهم المناطق، والتي يجب علينا كمسؤولين ان نلبيها لهم، انطلاقاً من الثقة التي اولاني اياها الشعب الكويتي لاحتل هذا المركز، من ثم فإن الواجب يحتم عليّ ان اتفقد احوال هذا الشعب لاكون عند ثقته...».
ويمضي في حديثه ، فيقول: «... اليوم أزور هذه المنطقة، والجهراء بالذات ستكون آخر زيارة لي من هذه الزيارات في الوقت الحاضر، وآمل ان أتمكن من زيارة مناطق اخرى كلما دعت الحاجة الى ذلك. ان الجهراء لها شرف احتواء القصر الاحمر الذي يمثل ويرمز الى الشجاعة والى التضحية ويرمز الى التعاون الذي صمد امام من حاولوا المساس بتراب الكويت، والذي كان نقطة تغيير في تاريخ الكويت.
ولو حصل ـ لا سمح الله ـ أي تخاذل، او حصل اي تسليم من قبل من كان يحمي هذا القصر، لكان قد حدث مالا تحمد عقباه. ولكن بالصبر والشجاعة والتضحية والمساندة، عندما استنجدوا باخوانهم في الكويت، هبت الكويت عن بكرة ابيها لمساندتهم في الدفاع عن ارضهم. ان هذا المنطق يؤكد حقيقة واحدة، وهي انه بالتعاون المستمر بين ابناء الشعب الكويتي في سبيل وطنهم وفي سبيل ارضهم، نجح ابناء الكويت في صد الكثير ممن حاولوا ان يمسوا تراب هذا الوطن، او كانت لهم اطماع في هذا البلد...و.
وينتهي من حديثه مؤكداً لمحدثيه انه «... بالتعاون المستمر، وبالتآخي وبانكار الذات، سنصل دائماً الى هدفنا المنشود في الحفاظ على استقلال بلدنا، وارض بلدنا...».
وبتاريخ 28 يونيو عام 1978 كان للشيخ جابر الاحمد لقاء مع ضباط ومسؤولي القطاعات التابعة لوزارة الداخلية، بعد ان تفقد اهم ما حققته الوزارة من اعمال وانجازات. وكان له في هذا اللقاء كلمة، جاء فيها: «... قبل فترة زرت اخواناً لنا في الجيش وفي سلاح الطيران والحرس الوطني، واليوم ازور اخواناً لي في وزارة الداخلية. وقد استمعت الى شرح من مختلف الادارات التابعة للوزارة، ويمكن ان يكون هناك ملاحظات لا مجال هنا لشرحها، لكنني اقول ـ بشكل عام ـ اننا كمسؤولين، من اكبر واحد في هذه البلد الى اصغر واحد، علينا ان نجد، وعلينا ان نجتهد وان نخلص..».
مشدداً هنا على كلمة: (النزاهة... النزاهة.. ثم النزاهة في عملنا).
موجهاً حديثه لجميع العاملين بالاجهزة الرسمية في الدولة دون استثناء، حين قال: «... يجب الا تغرينا المسائل المادية، وان لا تؤثر على الوظيفة التي كلفنا بها، ونحن هنا كمسؤولين جئنا لخدمة شعبنا، ويجب ان نكون عند ثقة هذا الشعب فينا...».
ويمضي مؤكداً: «... وفي الواقع انا احب ان اوجه هذا الكلام بصفة عامة، وليس فقط للمسؤولين في الداخلية او في الادارات الاخرى، انما كمسؤولين.. مني شخصياً الى اصغر واحد فينا...»
وهنا استدرك ملاحظة على قدر من الاهمية، حين اشار: «... لكن هنا احب ان ابرز نقطة واحدة خاصة برجال الشرطة والامن، وهي ان المواطن ينظر الى الشرطي وكأنه عدو له، ومن المؤسف ان هذه النظرة ليست في الكويت وحدها وانما في مختلف البلدان. وهنا، يجب ـ كرجال شرطة ـ ان نشعر هذا المواطن بأن وجودنا هو لحماية حياته، ولحماية ارضه، ولحماية ماله ـ وعلينا بالصبر ازاء بعض التصرفات التي يقوم بها المواطن، فمن واجبنا ان نكون لطيفين معه. ومن واجبنا ايضاً ان نهديه الى الطريق القويم. لكن هذا لا يعني انه ليس هناك بعض المستهترين الذين يتحدون القوانين، او يتحدون كرامة رجل الشرطة، مثل هؤلاء يجب ان نقف منهم موقفاً صارماً، ولا نسمح لهم بذلك، لان رجل الشرطة او رجل الامن له كرامته مثل اي شخص آخر...».
ويضيف في هذا الاتجاه قائلاً: «..... في الواقع هناك اشياء وملاحظات كثيرة يمكن بحثها مع الوزير لامكانية تلافيها في المستقبل، ولا مجال الان لذكرها. وما احب ان اقوله لكم الان هو ان نعمل بجد واخلاص، مترفعين عن كل شيء يؤثر على عملنا ووظيفتنا، اذا اردنا ان نرضي الله ـ سبحانه وتعالى ـ اولاً، وان نرضي ضمائرنا ثانيا. لان العمل الذي نقوم به عمل جاد وهادف...».
وبتاريخ 10 يوليو عام 1978م اقام الشيخ جابر الاحمد في منزله بقصر دسمان مأدبة عشاء تكريما لرجال الدين، القى خلالها كلمة ترحيبية بالحضور، جاء فيها: «.... ان مهمتكم كبيرة ازاء مواطنيكم، وازاء المسلمين عامة، انكم تعملون ما في وسعكم لتنبيه المسلمين الى ما امر الله ـ سبحانه وتعالى ـ به وما نهى عنه، متبعين في ذلك سنة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم...».
ويستطرد قائلاً: «... اننا نجتمع الليلة لنتدارس ولنتباحث في الامور التي تهم ديننا وعقيدتنا السمحة، وما تفرضه هذه العقيدة من واجبات علينا. وقد كلفت الاخ وزير الاوقاف بأن يشكل لجنة من اخوانه رجال الدين،لتكون على اتصال معي في الامور التي تهم ديننا وعقيدتنا. هدانا الله ووفقنا لما فيه خير هذه الامة...».
وبتاريخ 2 اغسطس عام 1978م تفقد الشيخ جابر الاحمد اللواءين الخامس عشر والسادس للجيش الكويتي، بادئاً زيارته للواء الخامس عشر، وبعد ان استمع الى شرح حول الواجبات المناطة باللواء وحدود مسؤولياته، توجه فألقى كلمة بضباط اللواء، جاء فيها: «.... ان زيارتي لكم هي لاستمرارية الاتصال بكم، وليكون المسؤول الاول مع ضباطه دائماً، يتحسس الامور التي تعود بالمصلحة العامة على هذا البلد وشعبه الوفي...».
وكان اللقاء الثاني مع اللواء السادس الذي وجه له كلمة، جاء فيها: «.... ان هذه الزيارة ستتبعها زيارات اخرى لجميع مؤسساتنا العسكرية التي هي اهم جزء في مجتمعنا الكويتي...».
ويمضي ليضيف: «... لاشك، ان المهمة كبيرة، والمسؤولية شاقة، فعلينا ان نتحمل جميعاً الدفاع والذود عن هذا البلد كل من موقعه، اننا بالاخلاص والوفاء سنصل للهدف المنشود لنا. ثقتي بكم كبيرة لرفع مستوى هذا الجيش الى المكان اللائق به لخدمة وطننا وشعبنا الوفي وأمتنا العربية...».
وبتاريخ 15 اغسطس عام 1978م كان للشيخ جابر الاحمد لقاء مع رواد الرعيل الاول من ابناء الكويت، وكانت لفته كريمة منه حين قام بزيارة المقهى الشعبي الكائن في منطقة السالمية، وذلك في اطار الزيارات التي حرص على القيام بها بعد توليه مقاليد الحكم، حيث تبادل الاحاديث الاسرية مع الرواد الاوائل والبحارة القدامى. ومما جاء في حديثه في هذا التجمع الشعبي: «... انتم الذين قامت الكويت على سواعدكم وعلى اكتافكم... انتم ابناء اولئك الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل الكويت. ولا انسى ايضاً كثيراً من التجار الذين دفعوا اموالهم عندما احتاجت الكويت لهذه الاموال في سبيل الدفاع عنها...».
ويمضي في هذا الحديث قائلاً: «... نحن كلنا نعيش في حلقة واحدة لا نسمح لأي واحد ان يدخل فيما بيننا.. اننا اخوان، واننا اهل ديرة واحدة، ولا يوجد بيننا حجاب ولا بيننا مانع، وان شاء الله تدوم هذه المحبة لما فيه مصلحة بلدنا وعزة بلدنا. واننا ما دمنا متكاتفين متضامنين متحابين فلن يقدر احد على ان يدخل او يتدخل بيننا..».
وبتاريخ 18 اكتوبر عام 1978م قام الشيخ جابر الاحمد بزيارة جمعية المكفوفين الكويتية متفقدا فيها المطبعة، وقسم الكهرباء. والمكتبة الصوتية والبصرية، مطلعا على احوال المكفوفين متلمسا احتياجاتهم وما يواجهونه من مشكلات حياتية.
وقد ألقى كلمة امام اعضاء الجمعية، جاء فيها: «جئتكم اليوم لأشعركم بانكم فئة من هذا المجتمع يجب علينا ان نقدم لها كل ما نستطيع من أجل اسعادها. لقد لاحظت في زيارتي هذه النشاطات التي تقوم بها الجمعية، وهي ان كانت محددة، فان سبب ذلك يرجع الى عدم استطاعة الجمعية في مقرها الحالي ان تتوسع في نشاطاتها. ونحن الان بصدد مساعدة جميع جمعيات النفع العام والاسهام في منشآتها..».
وأضاف قائلا: «ومن الطبيعي ان جمعيات المعاقين سواء المكفوفون، ام الصم والبكم، وغيرها من جمعيات النفع العام، لها الحق في ان نوفر لها كل ما نستطيع حتى لا يشعر اعضاؤها باي نقص، ولكي يشعروا بان هذا الوطن مثل ما يسعد الفئات الاخرى في المجتمع، فانه يجب عليه ان يسعدهم اولا وان يضعهم بعين الاعتبار. واذا كنا قد تأخرنا في السنوات الماضية، ارجو من الاخوان ان يعذرونا، فقد انشغلنا باشياء كثيرة، وارجو ان نتمكن من انجاز المشاريع الخاصة بالمعاقين، وبالذات انديتهم الجديدة، وان نتمكن من تحقيق رغباتكم قريبا».
ان الخطاب السياسي الذي افتتح به الشيخ جابر الاحمد الجابر الصباح امير دولة الكويت عهده الجديد لم يكن خطابا تقليديا، او ردة فعل لأوضاع محلية معينة او مؤثرات خارجية، بل كان بيانا الى الامة والشعب الكويتي، يدعوهم ويحفزهم لاستقبال مرحلة نهضوية من مسيرة المجتمع، يتوسم فيها الخير كله، اذا تضافرت الجهود وحسنت النوايا من أجل تحقيق نقلة نوعية في جميع نواحي الحياة، ومختلف مجالات العمل والانتاج التي يمكن أن تساهم في دفع عجلة التقدم والارتقاء نحو الأفضل.
فاذا كان الشيخ جابر الاحمد قد بدأ مرحلة ولاية العهد ورئاسة مجلس الوزراء ببيان شمولي، وانجازات سريعة واكبت ما ورد في البيان من افكار وطروحات، فان بداية عهده بالحكم قد بدأها ايضا بخطاب سياسي واكبه تحرك شخصي على المستوى الشعبي، سواء بزيارته لمؤسسات المجتمع المدني ام زيارة المواطنين في اماكن تجمعهم.
لقد كان الخطاب واضحا، ومحددا للاهداف والغايات، وشاملا لجملة من القضايا المجتمعية التي تبحث عن حلول سريعة، او استكمالا لخطوات تنموية بدأها سلفه الامير الراحل الشيخ صباح السالم الصباح.. بعبارة ثانية، جاء الخطاب بمثابة برنامج عمل يقوم به خلال مرحلة انتقالية اراد بها تحقيق شيء من النقلة النوعية التي اشار اليها، وسبق ان كررها في خطاباته وبرامج حكومته امام مجلس الامة الكويتي خلال الفترة التي ترأس فيها الحكومة، او في مناسبات معينة، او من خلال تصريحات صحفية.
إن الشيخ جابر الاحمد في زياراته لمؤسسات المجتمع المدني والتجمعات الشعبية التي لا يزال ملتزما بزيارتها في المناسبات، وخاصة خلال شهر رمضان الفضيل. انما يمثل متابعة حية لشؤون الوطن، ومسحا ميدانيا عمليا لقضايا المواطنين وتطلعاتهم إلى المستقبل» هذه الزيارات بلا شك تمنحه رؤية حقيقية لمتطلبات الناس، وتجعل اتجاهاته الفكرية في مختلف المجالات، سواء اكان على مستوى التخطيط ام التنفيذ، تحاكي تلك التطلعات المستقبلية.. وهذا ما سنقف عليه في الفصل القادم من الكتاب.
ولكننا قبل ذلك نستمع الى عبداللطيف البحر في تعليق له على مجمل هذه الامور حين يقول: «كان لدى سموه حس خاص باهمية روح الاسرة الواحدة والمحافظة عليها، وحثه الدائم على التعاون والتكاتف بين ابناء الكويت، وما خلا خطاب وجهه لشعبه الا ضمنه النصح والارشاد».
ويمضي «البحر» في هذا السياق. فيقول: «وسموه دائم التواصل مع حميع فئات شعبه، يستمع الى آرائهم وطروحاتهم وقضاياهم ومشاركتهم في افراحهم واتراحهم. وكذلك حضوره للديوانيات لإثراء النقاش العفوي حول القضايا المحلية وغيرها. وكذا زيارة المواطنين في اماكن تجمعاتهم في المناسبات كشهر رمضان والاعياد. وان معظم قراراته نابعة من واقع هذا التواصل واحساسه بشعبه واحتياجاتهم وسبر غور مشاعرهم».
وفي هذا السياق والاتجاه يحدثنا بدر النصرالله، فيقول: «كان سموه قريبا من حميع فئات الشعب، حريصا على زيارتهم في مناسباتهم المختلفة.. محبوبا وله حضور وقبول لدى جميع فئات الشعب. وكان في حياته مثالا للتواضع في سكنه ومعيشته، فأحس كل فرد في المجتمع الكويتي بانه منهم. ولدي مثال على ذلك، اذ ان ما يسمى بصالة الجوهرة في قصر دسمان. ما هو في الواقع الا مبنى متواضع. كان يتخذه سموه مكتبا ثانيا له، يجتمع فيه بعامة الناس والمسؤولين عند الساعة الرابعة بعد العصر لمناقشة مختلف الموضوعات والمشاريع. وكان هذا المبنى يعتبر مطبخا لافكار الشيخ جابر الاحمد..».
هكذا، يتضح لنا من هذه الحوارات واللقاءات مدى التصاق الشيخ جابر الاحمد بشعبه وابناء وطنه التصاقا وعلاقة ألغت جميع مظاهر الرسميات التي تحاط عادة برئيس الدولة. فعلاوة على اتباعه لسياسة الباب المفتوح في عمله. ولقائه المباشر بالمواطنين في ديوانية يوم السبت من كل اسبوع فان انتقاله الى اماكن تجمعات المواطنين وزيارتهم في مناطق اقامتهم، وتفقد جمعياتهم ومؤسساتهم التطوعية بين حين وآخر، لدليل قاطع على قوة ومتانة العلاقة الابوية والاخوية التي تربط شعب الكويت بالشيخ جابر الاحمد الجابر الصباح رئيس الدولة.
الكويت كانت تشغل تفكيره ومعاناة شعبها شظف العيش ـ قبل النفط ـ كانت هاجساً يقلقه الأمير: أنا تقدمي في حدود وأمقت التمدن الزائد الذي يعبق جوه بالرذيلة والشر
الاتجاهات الفكرية للشيخ جابر الاحمد الجابر الصباح
كانت اهتمامات الشيخ جابر الأحمد متعددة منذ ان دخل معترك العمل السياسي وهو في الحادية والعشرين من العمر، فالكويت كانت دوما تشغل حيزا واسعا في تفكيره. وشعب الكويت، وما كان يعانيه من شظف العيش وقساوة الحياة قبل تدفق عوائد النفط، كان هو الآخر هاجسا كبيرا يقلق تفكيره ويشده دوما للمشاركة في تخفيف تلك المعاناة، وللسعي الدؤوب لايجاد الحلول التي تتناسب وامكانات الكويت في ذلك التاريخ البعيد....
هذه الرؤية المبكرة ـ وهو لا يزال في خطواته الاولى في حياته العلمية ـ دفعته لان يلتصق بالناس ويتنقل بينهم ويستمع اليهم، وقد كان اتباعه لسياسة الباب المفتوح في الادارة، منذ ذلك العهد الذي كانت الكويت فيه لا تعرف الادارة بمفهومها الحالي، من الروافد الاساسية لتعرف معاناة اهل الكويت والوقوف عليها، ومحاولة ايجاد الحلول المناسبة لها.
هنا، نقف قليلا مع بعض رفاق العمل في نهاية عقد الخمسينات ومطلع الستينات، حيث يحدثنا فيصل المزيدي، فيقول: «... لقد تعرضت الكويت مثلها مثل بقية دول العالم لمشاكل سواء أكانت اقتصادية ام سياسية، وحسب علمي فإن الشيخ جابر الأحمد لم يلجأ قط الى حل يضر الناس كخفض الرواتب او العلاوات او تخفيض قيمة العملة، بل كان يلجأ في معالجاته للازمات الى تقليص المشروعات في الباب الثالث من الميزانية العامة للدولة على حساب الابواب الاخرى، وذلك حتى لا تتأثر معيشة الناس بالأزمات والمشاكل المحلية والاقليمية والعالمية، خاصة انه هو من رفع شعار مجتمع الرفاه، وهو من عمل على اعادة توزيع الثروة من خلال تثمين البيوت القديمة، ومن خلال توفير فرص العمل وفتح باب التوظيف في القطاع الحكومي....».
اما عبد اللطيف البحر فانه يحدثنا عن جانب اخر من هذا الفكر، حين يقول: «... وعلى الصعيد المحلي كان اهتمام سموه ببناء الانسان الكويتي من اولويات مشروعاته، فكانت النهضة التعليمية التي عمت البلاد، والتي تشهد بكفاءة التخطيط، علما وفكرا واسلوبا يتلاءم وروح العصر في شتى المجالات، فكان التوسع في التعليم العالي، وايفاد البعثات الى الخارج على نفقة الحكومة، بجانب البعثات على نفقته الخاصة»...
من جهة اخرى، يحدثنا حمزة عباس فيقول: «... ان فكر سمو الشيخ جابر الاحمد كان وراء كل نجاح اقتصادي في الدولة، وكان هو المؤسس لكثير من المشروعات الاقتصادية والشركات المساهمة، وهو رائد حركة التصنيع بدءا بالصناعات البتروكيماوية، كما انه كان قائد ومنظر الاستثمارات الخارجية بجانب قيادته لبداية تنظيم الاقتصاد الوطني الحديث منذ رئاسته لدائرة المالية عام 1959م»...
ويضيف بدر النصرالله في هذا السياق، حين يقول: «... لقد لمست طوال عملي معه ان لديه فكرا واضحا واهتماما فطريا بالمسائل الاقتصادية، فهو باني أسس مسار الاقتصاد الكويتي، بجانب قيادته وتوليه لأمور النفط وشركاته وعوائده، ووضعه لسياسة الاستثمار، وتنظيم العلاقات الاقتصادية مع مختلف الدول، وتوزيع مداخيل النفط وعوائده على الشعب، بجانب مساهمته في نهضة الكويت وتقدمها وتطوير الخدمات بها....».
وعليه، وبعد تقديم بعض من الشواهد والوقائع الدالة على فكر الشيخ جابر الاحمد، ومن خلال اشخاص عايشوه وعملوا معه منذ البدايات الاولى لعمله الرسمي، دعونا نبحر في رحلة علمية وعملية مع فكر الشيخ جابر الاحمد عبر مسيرة طويلة، وقنوات متعددة، فهي خير معين لنا للوقوف على شخصية هذا الزعيم العربي، والتعرف على اسلوب تفكيره ونهجه في تشخيص واقع الحال في وطنه وامته، وما يدور في العالم من تطورات وصراعات، وكذا استشراف تطلعاته المستقبلية لخير هذا الوطن وأمته العربية، وسعيه الدؤوب لضم صوته الى تلك الاصوات النزيهة والشريفة الداعية لخير البشرية اينما كانت، والدعوة الى اقامة عالم نظيف يسوده سلام عالمي بعيداً عن الحروب والنزاعات، ومجتمع انساني يتحقق فيه شيء من العدالة والكفاية الاجتماعية وضمان حقوق الانسان.
الفكر المجتمعي
كان الشيخ جابر الاحمد الجابر الصباح حاكم دولة الكويت، متابعا جيدا للتداعيات والافرازات الاجتماعية التي صاحبت رياح التغيير التي هبت على الكويت بعد تدفق عوائد النفط عليها، وانفتاح المجتمع لاستقبال افواج العمالة العربية والاجنبية الوافدة للمساهمة في بناء كويت المستقبل، وكذلك خروج افواج من الكويتيين لزيارة دول حضارية متقدمة، وخاصة في اوروبا الغربية والولايات المتحدة الامريكية، وبعض الدول العربية، وكذا افواج من الطلبة الكويتيين الذين خرجوا من خلف اسوار الكويت لأول مرة من اجل التحصيل العلمي في دول عربية واخرى اجنبية.
لا شك ان هذا الانفتاح عرض المجتمع لهزة كبيرة اثرت في انماط الحياة الاجتماعية التي كان يعيشها الكويتيون، فالأسرة الكبيرة بدأت تتقلص لتأخذ شكلا جديدا هي الاسرة الصغيرة «الاسرة النواة»، والاعراف والتقاليد التي كانت تحكم احوال المجتمع تراجعت هي الاخرى لتحل محلها التشريعات القانونية، والفتاة الكويتية خرجت من اسوار البيت لتلقي العلم ليس فقط في مدارس الكويت، بل وفي الخارج ايضا، وان التعاون بين الاسر وابناء الحي في مواجهة اي معضلة او متطلبات حياتية قد انتهت لتحل مكانها مؤسسات رسمية جاءت للاشراف على تنفيذ القوانين وخدمة المواطنين.
هذه التحولات، وغيرها كثيرة جداً في الحياة الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع الكويتي، نقلته من الحالة الاولية حيث علاقة الوجه للوجه، والاسرة محورها ووحدتها الانتاجية والاستهلاكية الى وضع جديد في مجتمع مدني تحكمه القوانين، وتنظم حياته نظم واجراءات تشرف على تنفيذها مؤسسات الدولة. ان وضعاً كهذا كان لابد ان يفرز تداعيات اجتماعية يتعرض لها المجتمع، وتصيب شرائح عديدة فيه.
في ذلك التاريخ لم تكن الكويت قد اقدمت على تنظيم الهيئات الاهلية التطوعية، وان كان المجتمع الكويتي كما عرف عنه منذ نشأته مجتمعاً تكافلياً تضامنياً، الا ان مثل تلك التداعيات الاجتماعية الخطيرة كان لابد من التصدي لها من مركز القيادة، وان الاستجابة الشعبية بالتالي لملاحقتها تكون امراً تلقائياً.
وهكذا، كان الشيخ جابر الاحمد واحداً من اولئك القادة الذين اعطوا اهتماماً بالغاً لهذه التداعيات والافرازات الاجتماعية، وان مسيرته الطويلة مليئة بمواقف وصور يمكن لنا ان نستخلص منها الشيء الكثير في كيفية تصديه ومواجهته للقضايا الاجتماعية والمجتمعية، وفيما يلي نماذج من العمل الاجتماعي الرائد:
¼ في ديسمبر عام 1961م، التقت مجلة الهدف الكويتية بالشيخ جابر الاحمد حينما كان رئيسا لدائرة المالية، لتعرض عليه جملة من القضايا المجتمعية، وكانت اجاباته تتم عن فهم وبعد نظر.
ففي ذلك التاريخ، كان هناك مجلس اطلق عليه «المجلس المشترك»... هذا المجلس اقدم على قرار بحصر عمل الفتاة الكويتية في ثلاث دوائر حكومية فقط. وعندما سئل عن رأيه في ذلك لكونه اول من امر بتوظيف فتاة كويتية في احدى شركات النفط، كان جوابه انه ضد هذا القرار، وانه اتخذ في غيابه. وعندما عرض القرار مرة ثانية على المجلس لاعتماده كان الشيخ جابر الاحمد اول المعارضين له معلقاً على هذه الخطوة قائلاً:«.... انا لا اتكلم هكذا كي ابين انني تقدمي امام الفتاة الكويتية، ولكن هذا هو الواقع... اتكلم بما يمليه علي ضميري. فأنا افتخر بأنني تقدمي في حدود، ولكني امقت التمدن الزائد الذي يعبق جوه بالرذيلة والشر.. فأنا أؤمن بحق العمل للفتاة، ولو اننا علمنا الفتاة حتى انتهاء الدراسة الثانوية فقط، لهان الامر، ولكننا بعثنا بها الى الجامعات لتعيش في وسط غريب لسنوات عديدة، حتى اذا ما عادت الى وطنها خدمته ووضعت علومها في سبيل انتعاشه وازدهاره. وانا اعتقد ان الفتاة التي تحافظ على شرفها في تلك الاماكن البعيدة في الغربة. ستحافظ على هذا الشرف ـ حتماً ـ حينما تعمل بين اشخاص من اهلها، يعتبرون شرفها شرفهم..».
¼ منذ ان تولى الشيخ جابر الاحمد رئاسة دائرة المالية وقضية الاجيال القادمة واحدة من الهواجس التي كانت تقلق باله، وحاول جاهداً ان يجد مخرجاً حكيماً يضمن حياة سعيدة لابناء الكويت على مر الدهر، حتى لا ينعم بثروات الكويت جيل من اجيالها، وتحرم اجيال قادمة من ذلك الخير والنعيم، من هنا، اهتدى فكرة الى ضرورة انشاء صندوق للاجيال القادمة يدخر فيها ما يمكن ادخاره من عائدات الدولة واستثماراتها. وبالفعل، وضحت الرؤية وتحققت الفكرة التي سعى اليها بصدور مرسوم اميري في 28 نوفمبر عام 1986م بالقانون رقم 106 لسنة 1986م في شأن احتياط الاجيال القادمة (لمزيد من التفصيل انظر الفكر الاقتصادي).
ويشاء العلي القدير ان يكون هذا التفكير السابق لزمانه، والمعبر عن روح التضحية في سبيل كفالة استمرار عملية التنمية، وتحقيق الرفاه للابناء من الاجيال القادمة، خير معين في مواجهة ما نجم عن عدوان النظام العراقي، واحتلاله لدولة الكويت في الثاني من اغسطس عام 1990م من آثار بالغة الخطورة والضرر، مكنت الشرعية الكويتية من ان تكفل للمواطنين الكويتيين خارج الكويت، بل وداخلها دخلاً مناسباً يكفي لحياة كريمة لائقة.
وهنا، يؤكد الشيخ جابر الاحمد، قائلاً: «... كنت اريد الا افرط في هذه الاموال، والاحتفاظ بها لمثل هذه الازمات، وللاجيال القادمة...».
حقاً لقد كان تفكيراً صائباً ورؤية ملؤها الشفافية في استقراء المستقبل، جعلت الكويتيين في الداخل وفي الشتات يحتفظون بعزتهم وشموخهم.
¼ لم ينصرف فكر الشيخ جابر الاحمد مند ان دخل معترك العمل السياسي عن الجوانب الاجتماعية في الحياة الكويتية، وما يصاحبها من مظاهر وظواهر طارئة على المجتمع، لها تأثيراتها وتداعياتها السلبية في كثير من الاحوال، بل على العكس من ذلك، فقد وجه جل اهتمامه لهذه القضايا الاجتماعية في محاولة منه لايجاد السبل الكفيلة للحد منها، وسعياً منه لضمان تعديل مسار المجتمع نحو الطريق الصحيح.
فقد سادت في المجتمع الكويتي في حقبة الستينيات ظاهرة اجتماعية، هي انصراف الشباب الكويتي عن الزواج داخل المجتمع، وذلك بسبب المتطلبات الكبيرة التي لم يعتد عليها الكويتيون من قبل، الامر الذي دفع الشباب الكويتي الى الزواج من الخارج تفادياً لهذه المتطلببات الجديدة الباذخة التي بدأت تصاحب حالات الزواج. وكان الشيخ جابر الاحمد وقتها ولياً للعهد ورئيساً لمجلس الوزراء، وكان له موقف ونظرة اصلاحية حيال هذه الظاهرة الاجتماعية. ففي احدى مقابلاته الصحفية مع الصحافة الكويتية انتقد بألم ومرارة هذه الظاهرة، حين علق قائلاً: «... منذ متى عرفت افراحنا تلك النزعة الخرافية في الاسراف وتقديم طعام يكفي عشرات الالوف لعدة مناسبات، وتلك المبالغات في فساتين الزفاف ومجوهرات الخطوبة.. انني ارى المسألة تتصاعد يوماً بعد يوم، وكل فرح يأتي يصر اصحابه على ان يكون اكثر بذخاً واسرافاً، وانني ارى العكس، فالمهم ليس شكل الفرح ومظاهره، ولكن المهم هو الحياة بين الزوجين بعد ذلك، وكيف تكون..».
ويذهب الى ابعد من ذلك، حين يقول: «... ان الناس ـ وانا متأكد مما اقول ـ تفعل هذا وهي غير مؤمنة به، انهم يجارون هذه البدع الجديدة التي جرّونا اليها، وانا اعلم ان الكثيرين الان اصبحوا يخافون الاقدام على الزواج اشفاقاً على تلك الحفلات الباذخة التي لا يمكن ايجاد تفسير لها، وهو امر لم يعد مقصوراً على فئة معينة بل اصبح وباء منتشراً...».
ثم يدلل على صور تلك العيوب الاجتماعية بواقعة عملية، حين يشير: «... اتذكر انني في احدى جولاتي الليلية في البادية مررت بعرسين في نفس الليلة، فوجدت في العرس الاول عشرين رأساً من الغنم مذبوحة للضيوف، وفي العرس الثاني عددت ثلاثين رأساً، فصممت ان امر في اليوم التالي لارى ماذا سيتم لخمسين ذبيحة في ليلة واحدة، وفعلاً عدت في الصباح فوجدتها ملقاة في الفضاء، حتى الكلاب عافتها بعد ان اتخمت.. فهل هذا يعقل في عصر تعمل فيه الامم حساباً لكل مواردها ونفقاتها ان يحدث فيها شيء من هذا القبيل..».
ويمضي مخاطباً الذات كحالة يراد منها التوجيه والنصح، فيقول: «...انا لا اسمح لاحد من اخوتي ان يقيم عرساً بشكل من هذه الاشكال، كل ما هناك تذكرتان بالطائرة، ونفقات معقولة لرحلة شهر العسل..».
هذا الوضع الاجتماعي، الذي برز على سطح الاحداث الاجتماعية في المجتمع الكويتي في تلك الحقبة، دفع الشيخ جابر الاحمد للتفكير في ايجاد اداة عملية لمواجهة هذه الظاهرة خوفاً من انتشار ظاهرة العنوسة في المجتمع الكويتي، وبالتالي الاخلال بالتركيب النوعي للسكان الكويتيين، فكان القرار رقم 2 لسنة 1959م بشأن لائحة القروض الاجتماعية والمعدل بالقرار رقم 1 لسنة 1962م، بتحديد اعانة زواج للكويتي الراغب بالزواج من كويتية بمبلغ وقدره الفا دينار كويتي، الف دينار منها هبة، والالف الآخر قرض يدفعه المواطن على اقساط مريحة جداً.
وان اهتمام الشيخ جابر الاحمد بهذه الظاهرة ومتابعتها جعله يبارك بحماس شديد رفع قيمة هذه الاعانة لتصل الى اربعة آلاف دينار كويتي، الفين منها هبة من الدولة، والالفان الاخران يدفعهما المواطن على اقساط مريحة.
كان تواصل الشيخ جابر الاحمد مع ابناء شعبه والمواطنين كافة احد الاهتمامات الرئيسية لنشاطاته، فقد كانت جولاته وزياراته لاماكن تجمع المواطنين في المناطق المختلفة مصدرا من مصادر الوقوف على مشكلات المجتمع وما يعانيه المواطنون. كما كانت هذه الجولات والزيارات فرصة طيبة لدعوة المواطنين للعمل من اجل بناء الوطن، والمساهمة بكل جهد ممكن في تحمل هذه المسؤولية التاريخية.
ففي لقاء مع رجالات الكويت الاوائل دعا الى الحفاظ على روح المحبة والالفة بين المواطنين، مشددا على ان الكويت التي بنيناها متكاتفين ستستمر وستزذهر بتكاتف وتضامن ومحبة ابناء الوطن، واصفا المجتمع الكويتي بانه حلقة واحدة يجب الا نسمح لأحد ان يخترقها ليفرق بيننا.
وفي إشارة اخرى له في هذا الاتجاه، بانه لولا هذه المحبة بين ابناء الشعب لما استطاعت الكويت ان تصمد امام التيارات المختلفة والمتناحرة من حولها، لكن ترابط الشعب ووحدته جعلاه صفا قويا منيعا في وجه هذه التيارات.
كان الشيخ جابر الاحمد يسعى دائما في سياسته الاجتماعية للقضاء على الامية في هذا البلد بأي ثمن. ذلك لايمانه المطلق بان تفشي الامية في المجتمع عائق امام الوصول الى الاهداف المرجوة، فالامية اكبر عدو لتقدم الشعوب ورقيها نحو الافضل. من هنا فان بناء الاوطان والانسان يتطلب القضاء في المرتبة الاولى على الامية واقتلاع جذورها.
كان هذا هو نهجه وتطلعاته نحو حياة افضل للوطن والمواطنين، وان هذا الفكر الرائد يتجلى لنا في الكلمة التي وجهها لابناء الشعب الكويتي عند بدء حملة للقضاء على الامية في الكويت، وبمناسبة صدور مرسوم بقانون رقم 4 في 23 اغسطس عام 1981م في شأن الالتزام بمحو الامية.. هذه الكلمة التي جاء فيها: «وبما اننا نعيش عصر التفجر العلمي الهائل، فنرى ونسمع ونتمتع بالكثير الكثير من منجزات الانسان العلمية في العالم، نتساءل كيف يتمكن الامي في هذا العصر من ادراك ما يدور حوله، ومن استيعاب دوره في الاستفادة من هذه المنجزات، والحفاظ عليها وحسن استخدامها، بل كيف يمكن له ان ينمي نفسه ويرعى اسرته، وان يسهم في نهضة بلده دون حصوله على قدر مناسب من العلم الذي يفتح له نوافذ المعرفة».
ويمضي في هذا الاتجاه مؤكدا: «ان القانون وحده لا يحقق الامال التي نتوخاها، ما لم يشعر كل فرد منا، وكل مؤسسة، بواجبه في احترام القانون وتنفيذه بحماس واخلاص وذاتية وادراك بان القانون يستهدف مصلحة المواطنين ومصلحة البلاد، واننا نتطلع ان يأتي قريبا اليوم الذي تحتفل الكويت فيه ـ باذن الله ـ بيوم القضاء على الامية، ضاربة المثل كالمعتاد في تضافر جهودها وتعاونها الذي يذلل كل الصعاب».
وحول مجمل هذه القضايا يحدثنا عبداللطيف البحر. مستوحيا من ذكرياته مواقف تتسم بالايثار والتضحية من أجل الصالح العام، فيقول: «ومن واقع المسؤولية الوطنية كثيرا ما كان سموه يضرب الامثال في التضحية بدءا بنفسه. ويرفض دائما اي تصرف يخرج عن العمل المألوف، حتى ولو كان يمسه او يمس احدا من افراد الاسرة الحاكمة، فقد كان سموه عنوانا للايثار يقدم مصلحة الامة على اية مصالح اخرى شخصية».
ويورد لنا البحر اكثر من مثال على هذا السلوك النابع من عقلية قيادية تريد كل الخير للكويت وشعب الكويت، فيقول: «عندما شرعت الدولة في تنفيذ مشروع شارع الخليج كان لسموه استراحة خاصة على شاطىء الخليج، حيث كان قصر دسمان متصلا بالبحر، وعندما وجد ان هذه الاستراحة تعيق سير المشروع تنازل عنها، وتم هدم سور دسمان. وعندها تبعه غيره من المواطنين ممن لهم استراحات على شاطىء الخليج دون ابطاء فاكتلمت اقامة المشروع.
اما المثال الاخر، فقد كان لسموه ارض في منطقة السرة تسمى السريرات فأرادت الدولة تثمينها وكان اجمالي ميزانية التثمين التي اقرت في ذلك الوقت تقدر ـ على ما اذكر ـ بحوالي عشرة ملايين دينار كويتي. بينما قدرت قيمة تثمين «السريرات» وحدها بثمانية ملايين دينار كويتي. وعندما عرض الامر على سموه، وكان وليا للعهد، رفض رفضا باتا وقال: الاولى بها حاجة الكويت والكويتيين. وآثر التنازل عنها وتوزيعها على المواطنين الذين هم في اعتقاده احق بها.
أما المثال الثالث، فانه يتمحور حول أبراج الكويت، عندما وجد المنفذون ان انسب الاماكن لاقامتها هو نفس موقع الاستراحة التي سبقت الاشارة اليها. وهو موقع يطل مباشرة على قصر دسمان، ورغم ذلك اصر سموه على اقامتها في نفس المكان الذي تم اختياره. وكان سموه يشرف بنفسه على التصميم ويعطي توجيهاته كي يخرج نابعا من البيئة الكويتية، ويحمل معنى الاصالة والحضارتين الاسلامية والحديثة، وهذا ما نلمسه اليوم، حيث تأخذ الابراج شكل المأذنة والصاروخ. وحتى اختيار نسب الارتفاع لتمكن الدولة من الاستفادة العملية منه في تخزين المياه، واعداده مرفقا ترفيهيا وسياحيا بما يحويه من مطاعم وصالات هذه الامور الهندسية جاءت من بنات افكاره، لتصبح ابراج الكويت اليوم ـ بفكر سموه ـ معلما حضاريا متكاملا في الدولة».
هذه المرئيات المبكرة للشيخ جابر الاحمد في قيادة الدولة والمجتمع كانت تدعو للاخذ بما هو صالح من ثمار الحضارة والتقدم. وان ما هو مناسب لمجتمع متقدم لا يعني انه ملائم لمجتمع لا يزال في طور النمو.. هذه المرئيات الخالصة لوجه الوطن، كانت دعوة صريحة ضد المحاكاة والنقل العشوائي لحضارة الاخرين، مثلما كانت دعوة واضحة لتغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وتسخير ما يمكن الاستعانة به من اجل نماء الدولة ورفع شأن المجتمع بين الشعوب والامم. كما كانت دعوة لنبذ الانانية البغيضة والمصلحة الفردية الضيقة، وترجيح نداء العقل والحكمة عند الشروع في اتخاذ اي قرار يمس امن الوطن والمواطن في حاضره او من اجل مستقبله.
سنكمل غداً لمسيرة القائد
ولكن سأرفق لكم ملف مرفق لكي لا تنزعجوا
(( آسف ألف مره للإطاله ولكن هذا هو أميرنا وهذي هي مشاعرنا ))