استكمال التحضيرات
ينما يتهيأ الطفل للعالم الخارجي تبدأ عملية رائعة بين الأعضاء في تقسيم العمل والأعمال والتطورات الواجبة قد غيرت ونظمت حسب شروط وظروف العالم الخارجي فالعينان اللتان لا يستعملهما الجنين في بطن أمه قد نظمتا حسب شدة الضوء في العالم الخارجي، ونظمت الأذنان حسب صفات الأصوات في الدنيا، وكذلك جهزت المعدة والأعضاء الأخرى في الجهاز الهضمي بأنظمة فسيولوجية مناسبة للأغذية الموجودة في الدنيا . وقد تمت برمجة الخلايا الموجودة في الجهاز الهضمي بحيث تستطيع القيام بتحليل أغذية لم تعرفها من قبل وهي تملك قابلية تحليل
الكاربوهيدرات والبروتينات والدهون كما أنها مجهزة بمخطط تعرف بموجبه أي الأعضاء في حاجة إلى أي نوع من الغذاء، فترسل تلك الأغذية إليها .وهكذا يهيأ الجنين بشكل مخطط ومبرمج للعالم الخارجي . وهنا نلفت الأنظار إلى أعضاء جسد هذا الوليد الجديد قد تهيأت للعالم الخارجي الذي لم تره ولم تسمع به ومحيط وجو لم تعرفه . وعندما يفارق الجنين جسد أمه تنمو أعضاؤه وكأنها تعرف البيئة والمحيط الذي ستواجهه، ويستحيل طبعاً عزو هذه المعرفة إلى " النطرة المستقبلية البعيدة للأعضاء " ! إن هذا التهيؤ الواعي الذي تقوم به خلايا الوليد بإلهام من الله تعالى دليل مهم من أدلة الخلق .
في الشهرو الأخيرة من الحمل يزداد وزن الجنين زيادرة ملحوظة، ويرجع السبب في هذا إلى بدء تكون الأنسجة الدهنية والخلايا التي تصنع الطبقة الدهنية ذات لون بني وهي تصنع وتكون هذه الطبقات الدهنية خلف الرقبة وحول الكليتين وخلف عظام الصدر ووظيفة الطبقات الخاصة من الدهن المحافظة على حرارة جسم الوليد عاليةًَ في الأشهر الأولى بعد الولادة، كما تشكل هذه الطبقات الدهنية غذاء احتياطياً للوليد [1]
وهذا دليل آخر علي قيام الخلايا الصانعة للطبقات الدهنية بأداء عملها على الوجه الأكمل حسب الواجبات الملهمة لها .
في هذه الأثناء تبدأ الدهون البيضاء بالتكون بطبقة رقيقة ،وهكذا يلف الدهن جلد الجنين بطبقة تحت الجلد . وبجانب طبقات الدهن تحت الجلد تقوم خلايا الجلد بصنع دهن آخر تكون وظيفته حفظ الجلد من السائل الموجود فيه . ومن المهم جداً تكون هذه الدهون لأن الطبقة الدهنية تكون فاصلاً بين الجلد وبين الماء فتمنع بذلك أي تأثير سلبي للماء على الجنين .
قلنا في الفصول السابقة إنه لا يسمح لعناصر نظام الدفاع والمناعة الموجودة في دم الأم بالدخول إلى دم الجنين لأن هذه العناصر تعد الجنين جسماً غريباً، لذلك كان من المحتمل القضاء عليه . ولكن ما أن يأتي الشهر التاسع حتى يتغير هذا الوضع فجأة، حيث تنتقل الأجسام المضادة ( وهي خلايا دفاعية ) من دم الأم إلى الجنين عن طريق المشيمة . وعندما نبحث عن سبب هذا الأمر تفاجأ بحقيقة مذهلة تماماً، فخلايا الدفاع لا تتكون عند الوليد الجديد طوال ستة أشهر، ولكن الطفل الوليد في حاجة إلى الأجسام المضادة للدفاع عن نفسه ضد الجراثيم، ولذلك تقوم الأجسام المضادة العائدة للأم .
( والتي سمح لها بالدخول إلى دم الجنين في الشهر الأخير من الحمل ) بوظيفة الدفاع عن الجنين عند أول قدومه إلى الدنيا ضد الأمراض المعدية وضد الجراثيم[2].
وبعد مضي عدة أشهر يبدأ النظام الدفاعي والمناعي عند الوليد بصنع الأجسام المضادة، وعند ذلك توقف الأجسام المضادة المتنقلة إليه من أمه أعمالها .
وهذا الأمر الذي لخصناه قبل قليل مثال من الأمثلة العديدة التي شرحناها من قبل والتي تدل على التخطيط الرائع الموجود في خلق الإنسان، فقد حسبت جميع التفصيلات الدقيقة الخاصة بالشروط التي يجب توفرها لتكوين إنسان جديد في شهر وفي كل يوم وفي كل دقيقة، حيث يحتاج فيه الجنين إلى هذه المواد حتى يلغي النظام السابق بدقة ويحل محله نظام رائع آخر .و لا شك أن مثل هذه العمليات الرائعة لا تتم بإرادة ورغبة الخلايا وقرارها ،وكل هذه الأمور أدلة على الخلق بواسطة القدير العزيز ودون مثال مسبق .
وكما يظهر من الأمثلة المعطاة فإن كل مرحلة من مراحل نمو الجنين تخضع لرقابة دقيقة، والنمو يتم ضمن مراحل عديدة تنفذ حسب تخطيط كامل لا يخطئ، وفوق ذلك فقد مر كل إنسان عندما كان جنيناً بهذه المراحل ونما حتى وصل إلى وضعه الحالي . إن في هذا التصميم والتخطيط الرائعين الموجودين في خلق الإنسان آيات لكل متأمل ومفكر ذي عقل سليم .
الخلق من قطرة واحدة
تستمر فترة النمو طوال تسعة أشهر في رحم الأم دون قصور أو خلل، والجنين الذي دخل الرحم وهو قطرة واحدة يخرج منه وهو إنسان كامل .
ولو وقع أي خلل في هذه الفترة وخلال عمليات التحول فلا مفر من موت الجنين فمثلاً إن نما الدماغ بسرعة أكبر من نمو عظام القحف انحشر دماغ الجنين وتضرر، والشيء نفسه وارد بالنسبة للتلاؤم بين العظام والأنسجة، وكذلك في الأعضاء الأخرى كالعينين والرئتين والقلب وما يحيط بهذه الأعضاء من عظام . كما أن النمو المتناسق للأعضاء مهم جداً، فلو تأخر تكون الكليتين في أثناء تكون جهاز الدوران لتعذر تنظيف الدم ولتسمم الجسم . غير ن أي أمر من هذه الأمور لا يحدث بل يتنقل الجنين من مرحلة إلى أخرى بشكل سوي ويتم خلقه بكل كمال .
والقدرة الوحيدة التي خلقت هذا الإنسان من قطرة واحدة ثم سوته إنساناً هي قدرة الله تعالى القدير رب العالمين .
ويشرح الله تعالى في القرآن كيفية خلقه للإنسان فيقول : (أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ {3} بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ {4}.
لا شك أن وظيفة الإنسان ـ حيال هذه الحقيقة ـ تجاه ربه الذي خلقه من نطفة فجعله سميعاً بصيراً مفكراً هو الحمد الدائم والقرآن الكريم يذكر هذه الحقيقة فيقول : (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ) (الملك:23).
نحو دنيا جديدة
عندما تتم جميع التحضيرات اللازمة لكي يخطو الجنين خطوته الأولى نحو دنيا جديدة يبدأ السائل السلي بفعاليات جديدة من أجل الولادة، حيث يقوم هذا السائل بتكوين أكياس صغيرة لتوسيع فم الرحم فيوصله إلى السعة اللازمة لمرور الطفل، وتقوم هذه الأكياس وتسيل السوائل منها مما يؤدي إلى جعل الطريق الذي يخرج منه الجنين لزقاً من جهة ومعقماً من جهة أخرى، وهذا الأمر يوفر ولادة سهلة ومحمية من الجراثيم أيضاً
وبالإضافة إلى هذه التحضيرات التي تتم في الرحم يجب توفر شروط عديدة في الوقت نفسه لكي يخرج الطفل إلى الدنيا بأمان . مثلاً يجب أن يتخذ الطفل أفضل وضع ملائم للعبور إلى الخارج، ولذلك يقوم بدوران تدريجي بواسطة حركات رجليه حتى يدخل رأسه في عنق الرحم .
ولكن كيف يستطيع طفل لم يخرج بعد إلى الدنيا معرفة أي الأوضاع هي الأنسب ؟
ومن أين له أن يعرف أفضل وضع وأنسبه للولادة ؟ وكيف يستطيع جنين في بطن أمه معرفة أنه قد حان وقت الولادة ؟ لا شك أن هذه تفصيلات مهمة جداً يجب الوقوف عندها والتفكر فيها . إن مثل هذه التصرفات الواعية التي يظهرها مخلوق لم يستكمل بعد أحاسيسه دليل واضح على أنها ليست نتيجة إرادته بل بإلهام من الله تعالى الذي أحسن خلقه .
توجد في أثناء ولادة الطفل أمثلة عدة لترتيبات معجزة . فمثلاً لكي تتحقق ولادة صحية يجب ألا يتضرر رأس الطفل وأن يكون له بنية خاصة تحفظه من الضرر عند الولادة، وعندما ننظر إلى جمجمة الطفل نرى تركيباً يوفر الحاجة، فهي تتكون من خمس عظمات يصل بينها نسيج مرن ولن هو نسيج اليافوخ هذا التركيب اللين والمرن يوفر مطاطية وليونة للرأس مما يساعد على عدم تضرر الرأس من أي ضغط يسلط عليه في أثناء عملية الولادة .
وقبيل ولادة الطفل تجري تحضيرات عديدة تحت فحوصات مكثفة، حيث تتخذ بعض الاحتياطيات لمواجهة بعض الاحتمالات . فمثلاً لتسهيل عملية الولادة والحيلولة دون حصول الالتهابات يدخل السائل السلي إلى الميدان .
وهنا يخطر على البال السؤال التالي: من الذي يسيطر ويتحكم ويقرر أن التحضيرات قد أكملت وأنه قد آن أوان الولادة ؟ من الذي دقق وفحص وعلم أن كل شيء قد تم : إن العينين مستعدتان للرؤية، وأن الرئتين مستعدتان للتنفس، وأن المفاصل قد كملت وأن الدماغ تشكل تماماً ودون نقص ؟ من يقوم بهذا كله ويخبر به الطفل ؟ .
لا توجد في جسم الجنين أية آلية تستطيع القيام بهذا الأمر . إن الدماغ الذي يعد مركز السيطرة ليس إلا عضواً نامياً مع الجنين، وحتى لو كان الدماغ كاملاً فلا يعني هذا شيئاً، لأن الجنين النامي حتى تلك اللحظة في بطن أمه يكون على جهل تام بالمحيط الخارجي ولا يمكن أن يكون على علم إن كان ببنية مناسبة للمحيط الخارجي أو لم يكن . كما أن الأم لا تستطيع تقرير وقت الولادة وتعينها لأنها عاجزة عن التدخل في أي مرحلة من مراحل العمليات الجارية في جسدها منذ اليوم الأول من الحمل، فكيف تستطيع إعطاء القرار وتعيين المرحلة الأخيرة ،أي تعيين وقت الولادة؟
لا شك في أن الله تعالى هو الذي يتصرف في هذه الأمور وهو الذي يقرر لحظة بدء الحياة في الدنيا لكل إنسان، فهو الخالق وهو العارف بكل لحظة من لحظات حياة كل إنسان وهو العارف بلحظة موته وانتهاء أجله في هذه الدنيا، وهو الذي يعين أجل كل إنسان .
ووظيفة كل عاقل عرف هذه الحقائق التفكر في خلقه ليكون شاهداً على القدرة اللانهائية لربه الخالق العظيم .والله تعالى يخاطب الناس في القرآن قائلاً :
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (الحج:5)
حليب الأم أول غذاء في الحياة
يجب على جسم الطفل الذي فتح عينيه لأول مرة على الحياة أن يتكيف لحياة جديدة، وقد تم في أثناء مرحلة الحمل تهيئة جميع العوامل المساعدة لتسهيل هذا الكيف، وأوضح مثال على هذا الأمر هو مراحل تكون حليب الأم .
في أثناء مرحلة الحمل تقوم هرمونات الأم بتهيئة الحليب، وإنتاج الحليب يتم في الأصل بواسطة هرمون " البرولاكتين" الذي يفرزه القسم الأمامي للغدة النخامية الموجودة في الدماغ في أثناء مرحلة الحمل يقوم هرمونان البروجسترون وهرمون الإستروجين ( اللذان تنتجهما المشيمة ) بمنع أثر هرمون البرولاكتين في تفعيل الجسم لإنتاج الحليب، ولكن عندما تظهر المشيمة خارج الجسم بعد الولادة تنخفض نسبة هذين الهرمونين في الدم ويدخل هرمون البرولاكتين الميدان لإنتاج الحليب، وبفضل التواصل والاتصالات الجارية بين الهرمونات تتم تهيئة غذاء ثمين جداً وهو حليب الأم في الوقت المناسب تماماص لحاجة الوليد للغذاء . ولا شك أن هذا أمر خارق، فالمشيمة قد أدت وظائف حيوية ومهمة جداً عندما كانت داخل الجسم، ولكن عندما يحين الوقت المناسب يتم قذفها للخارج، وهذا الأمر يصحب معه تحولاً وتطوراً مهمين لحياة الإنسان، وهكذا، كما رأينا، فإن كل التفصيلات التي تحدث في كل ثانية وفي كل لحظة من لحظات خلق الإنسان عمليات تكمل إحداها الأخرى، وعندما لا تحدث إحداها يتعذر تكون الأخرى . ومن الواضح أن هذا دليل على أن الإنسان ينشأ ويخلق بوساطة قدرة خارقة عظيمة .
وبالإضافة إلى ذلك فإن هذه المراحل تستمر حتى بعد ولادة الطفل ويزداد إنتاج الحليب بعد ولادة الطفل، ويزداد إنتاج الحليب عند الأم حسب حاجة الطفل الغذائية، فالإنتاج الذي يبلغ في الأيام الأولى من الولادة خمسين غراماً يزداد حيث يبلغ لتراً واحداً في الشهر السادس . وقد عجز العلماء حتى الآن ـ عن معرفة تركيب حليب الأم مع أنهم قد أجروا بحوثاص مكثفة جداً في هذا الصدد، واقتنعوا أخيراً باستحالة تحقيق هذا الأمر . ويعود السبب في هذا إلى عدم وجود حليب معين بنفس المواصفات عند الأمهات، فجسم كل أم ينتج حليباً حسب حاجة وليدها، ويقوم هذا الحليب بأفضل تغذية للطفل بحيث يعجز أي غذاء آخر في الخارج عن القيام مقامه، فقد دلت البحوث على أن الأجسام المضادة ( أي الخلايا الدفاعية ) والهرمونات والفيتامينات والمعادن الموجودة في حليب الأم معيرة حسب حاجات الطفل الوليد .
الفروق بين حليب الأم والمواد الغذائية الأخرى :
إن استعمال أغذية أخرى للطفل بدلاً من حليب الأم لن يستطيع إشباع حاجات الطفل فمثلاً لا يحتوي أي غذاء آخر على الأجسام المضادة الضرورية للنظام المناعي للطفل .
وعندما نقارن حليب الأم بحليب البقر الذي يعد غذاءً تقليدياً للأطفال يتبين تفوق حليب الأم بشكل أوضح . فحليب البقرة يحتوي على مقادير أكبر من مادة الكازائين وهذه المادة عبارة عن بروتين يوجد في الحليب المتخثر، وهي تتفتت في المعدة إلى أجزاء أكبر أي أنها تكون صعبة الهضم، لذلك كان هضم حليب البقر أصعب من هضم حليب الأم، ووجود هذه المادة بكمية صغيرة في حليب الأم ييسر هضمه .
ويختلف هذان الحليبان من ناحية تركيب الأحماض الأمينية الموجودة فيهما . ويؤدي هذا التركيب المختلف إلى زيادة مجموع مقدار الأحماض الأمينية في بلازما الطفل المتغذي على حليب البقرة وإلى زيادة بعض الأحماض بشكل كبير وإلى نقص مقدار البعض الآخر منها وعدم كفايتها، مما يؤدي على تأثيرات سلبية في النظام العصبي المركزي من جهة وإلى زيادة العبء الواقع على الكليتين بسبب زيادة مادة البروتين من جهة أخرى .
والشيء الآخر المميز لحليب الأم هو ما يحتويه من سكر يحتوي حليب الأم ( وكذلك حليب البقر ) على نفس النوعية من السكر، وهو سكر اللاكتوز . ولكن نسبة هذا السكر في حليب الأم تبلغ سبعة غرامات لكل لتر بينما تكون في حليب البقر أقل من خمسة غرمات للتر كما أن الأجزاء الكبيرة المتخثرة لحليب البقرة تمر ببطء كبير من الأمعاء الدقيقة، وهذا يؤدي إلى امتصاص النسبة الكبيرة من الماء واللاكتوز في الأمعاء الدقيقة، بينما تستطيع الأجزاء المتخثرة من حليب الأم المرور بسهولة ويسر من الأمعاء الدقيقة فيصل الماء واللاكتوز إلى الأمعاء الغليظة، وهكذا تتكون عند الإنسان بنية صحية للأمعاء تنمو فيها البكتريات المفيدة . والفائدة الثانية من وجود مقدار كبير من سكر اللاكتوز في حليب الأم هي مساعدته في تسهيل تكوين مادة " السرابروزيت " التي تلعب دوراً مهماً في تكوين بنى وتكوينات مهمة في النظام العصبي للإنسان .
ومع أن مقدار الدهن متقاربة في حليب الأم وفي حليب البقر، إلا أن في نوعيتها فرقاُ فحامض اللينوليك الموجود في حليب الأم هو الحامض الدهني الوحيد الضروري الذي يجب أن يتزود به الطفل مع الغذاء.
والخاصية الأخرى المميزة لحليب الأم هي نسب الأملاح والمعادن الموجودة فيه، إذ توجد نسبة أكبر بكثير من الأملاح والمعادن في حليب البقرة من النسبة الموجودة في حليب الإنسان فمثلاً نجد أن نسبة الكالسيوم والفوسفات مرتفعة في حليب البقر، ولكن النسبة الموجودة بين هاتين المادتين مختلفة كثيراً بحيث تؤثر سلبياً في عمليات التجديد والتمثيل الحيوية عند الطفل بالنسبة لمادة الكالسيوم، لذلك فإعطاء حليب البقر للطفل في أيامه الأولى يؤدي إلى انخفاض مستوى الكالسيوم في دمه وإلى سلبيات أخرى .
حليب الأم يصون الطفل في جميع المراحل :
عندما يخرج الطفل من الجو المعقم الخالي من الجراثيم في بطن أمه إلى العام الخارجي يضطر على الصراع مع العديد من الجراثيم الموجودة في هذا العالم، ومن أهم ميزات وخواص حليب الأم قيامه بصيانهة الطفل وحفظه من أخطار هذه الجراثيم . وتقوم الأجسام المضادة التي تنتقل من حليب الأم إلى الطفل بالصراع مع هذه الجراثيم ( التي لم يعهدها الطفل ،ولم يعرفها من قبل) وكأنها تعرف هذه الجراثيم عن قرب وفي الأيام الأولى خاصة تفرز الأم حليباً خاصاً يسمى اللبأ توجد فيه نسبة عالية من هذه الأجسام المضادة التي سرعان ما تكشف عن صفات الصيانة والحفظ التي تتمتع بها . وهذه الصينانة التي تحفظ الطفل من التأثيرات السلبية الخفيفة والخطيرة للجراثيم تكتسب أهمية كبيرة ولا سيما في الأشهر الأولى من حياة الطفل، وتزداد هذه الصيانة قوة وتاثيراً طول فترة الإرضاع .
وتتضح فوائد حليب الأم للطفل أكثر فأكثر يوماً بعد يوم، وإحدى الحقائق التي كشف عنها العلم الحديث حول حليب الأم هي مدى أهمية امتداد فترة الرضاع لعامين كاملين من ناحية الطفل . وهذه الحقيقة التي اكتشفها العلم حديثاً أخبرنا بها القرآن الكريم قبل أكثر من أربعة عشر قرناً :
قال تعالى وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (لقمان:14) .
حاول أنصار نظرية التطور استعمال حادثة الولادة ( التي هي دليل على خلق رائع ) .
علم الأجنة يكذّب نظرية التطور :
دليلاً على نظريتهم ولقد أصبح من الحقائق المقبولة التي لا تقبل النقاش في علم الأجنة أن كل مرحلة من مراحل الولادة وخلق إنسان جديد تتحقق ضمن تصاميم حساسة جداً، إذن فكيف يستطيع التطوريون إبراز حقيقة الخلق هذه دليلاً في دليلاً في صالحهم .
وضع العالم التطوري إرنست هيغل في القرن التاسع عشر نظرية سماها " تطور الفرد تلخيص لتطور النوع " وقد أدّعى هيغل في نظريته هذه بأن المراحل التي يمر بها الجنين هي تلخيص وتكرار للمراحل التي مر بها أسلافه في سلم التطور، فجنين الإنسان مثلاً ـ كما يزعم ـ ينتقل خلال المراحل التي يقطعه في بطن أمه من مرحلة الأسماك إلى مرحلة الزواحف ثم ينقلب إلى المرحلة الأخيرة وهي مرحلة الإنسان .
ولم يتأخر انكشاف خطأ هذه النظرية ومخالفتها للحقائق . فالتراكيب التي تظهر في المراحل الأولى من عمر الجنين ( والتي أدّعو أنها تمثل الخياشيم ) قد ظهر ـ فيما بعد ـ أنها ليست كذلك بل هي بدايات قناة الأذن الوسطى والغدة جنب الدرقية والغدة السعترية كما انكشف أن ما شبهوه بكيس صفار البيض لم يكن ـ في الحقيقة ـ إلا كيساً مسؤولاً عن إنتاج الدم للجنين . أما الجزء الذي عدّوه ذنباً فلم يكن إلا عظم العمود الفقري للإنسان !
هذه المعلومات أصبحت شائعة ومعروفة في دنيا العلم، حتى إن أنصار التطور أنفسهم قد نبذوا هذه النظرية بعد وقت قصير من وضعها بوساطة هيغل . وقد بين جورج غايلورد، وهو من أشهر أنصار الداروينية الجديدة، كيف أن هذه النظرية لا تملك أي مصداقية فقال :
" لقد أخطأ هيغل في شرح شكل النمو التطوري، فنحن نعرف اليوم أن التطور الجنيني في الأحياء لا يعكس تطور الأسلاف " [1]علماً بأن خطأ نظرية هيغل كان قد تبين في المناقشات العلمية التي جرت في العشرينيات من القرن العشرين، وفي الخمسينيات حذفت هذه النظرية من الكتب الدراسية والمنهجية[2].
الرسومات المزيفة :
عندما وضع هيغل نظريته هذه لم يتوان عن أتباع طرق علماء التطور فوضع لها رسومات مزيفة، وعندما تقدم علم الأجنة بعض التقدم وظهرت عملية التزيف هذه في الرسومات اعترف بأنه لم يتبع إلا طريق أصدقائه الآخرين في عمليات التزييف ،وقال إنه " يحسب نفسه ـ بعد اعترافه هذا ـ هالكاً ومقضياً عليه، ولكن ما يعزيه أنه يقف جنباً إلى جنب في هذه الجريمة مع المئات من أصدقائه ومع العديد من المحللين والنقاد وعلماء الأحياء، الذين وضعوا في كتبهم المشهورة في علم الأحياء وفي رسائلهم العلمية وفي مجلاتهم العديدة من الصور المزيفة والمعلومات غير المؤكدة والأشكال التوضيحية المزيفة [3]
ويتضح من هذا أن محاولة هيغل في تقديم علم الأجنة على صدق نظرية التطور لم يكن إلا سفسطة فارغة، وأن معجزة خلق الإنسان التي قدمنا معلومات موجزة عنها في هذا الكتاب دليل يدحض على حقيقة الخلق .
النتيجة :
كل من عاش وكل من يعيش على وجه هذه الأرض كان مجرد خلية حوين قذفت إلى رحم الأم ،وتحت ظروف وشروط خاصة مخلوقة ومهيأة من قبل الله تعالى اتحد مع البويضة وبدأ كخلية حية واحدة في الحياة وفي النمو .
لقد عشتم ـ أنتم وأمهاتكم وآباؤكم وإخوانكم وأقرباؤكم وأصدقاؤكم ومن تعرفون ومن لا تعرفون من الناس وجميع من يعيش في الدنيا الآن أو عاش فيها في السابق ـ مراحل الخلق المعجزة هذه . وطوال أشهر عديدة، حين لم يكن الإنسان يشعر بوجوده ولا بكيانه، صور الله تعالى أبدانهم وخلق كلاً منهم إنساناً سوياً من خلية واحدة .
إن تأمل هذا الأمر والتفكير فيه وظيفة كل إنسان في هذه الدنيا ووظيفتكم ـ أنتم أيضاً ـ التفكير في كيفية وجودكم وخلقكم ثم التوجه بالحمد والشكر إلى الله تعالى الذي صوركم وخلقكم في أحسن تقويم .
ولا تنسوا أن ربكم الذي خلق ابدانكم مرة واحدة قادرٌ على أن يبعثكم من موتكم وأن يحاسبكم ،وما أيسر هذا على الله القادر على كل شيء .
إن الذين ينسون خلقهم وينكرون الله والآخرة في غفلة كبيرة، والله تعالى يتحدث عن هؤلاء فيقول:
( أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين )سورة يس 77