عدة تفسيرات علمية بالاستعانة بما يجري لليابسة من نقص مستمر من أطرافها كما يلي:
( 1 ) استمرار انكماش سطح الكرة الأرضية امتداداً لأثر التبريد الذي حدث لقشرتها منذ انفصالها من الشمس منذ 406 مليار سنة وحتى الآن، وأدّى إلى نقص محيط هذه الكرة بحوالي 300كم حتى الآن، وما زال التبريد مستمراً مما يؤدي إلى نقص أقطارها من أطرافها، ويمكن الكشف عن هذا النقص البطيء والتدريجي بأجهزة الاستشعار عن بعد من الفضاء، والتي تستخدم حالياً لقياس الطيات الحادثة في قشرة كوكب الأرض للتنبؤ بحدوث الزلازل.
( 2 ) الطغيان المستمر لمياه البحار والمحيطات، فقد غمرت هذه المياه في الماضي معظم الأراضي التي نراها الآن يابسة، وربما حدث ذلك عدة مرات نتيجة الانخفاض المحلي في جزء من الأرض أو الارتفاع العام بمستوى سطح البحر بما يؤدي عادة إلى هذا الطوفان والطغيان على الأرض المنخفضة من شواطىء القارات، وبلغة الجيولوجيا يمكن القول بأن الشواطىء التي تفصل اليابسة عن البحار تعتبر دائماً حدوداً مرنة غير ثابتة قابلة للتغيير، وهناك نماذج لمدن مغمورة تحت البحر، وهذا يحدث باستمرار بل ونتوقعه في المستقبل بالنسبة، لدلتا النيل والساحل الشمالي على سبيل المثال، فقد تنقص مصر ـ لا قدر الله ـ من أطرافها، وهذا قد يحدث في كل أطراف الأرض اليابسة لكل الكوكب نتيجة ارتفاع مستوى البحار نظراً لتراكم الرواسب والكفح البركاني في قاع البحر وارتفاع القشرة الأرضية لهذا القاع وانصهار بعض المناطق الجليدية نتيجة الارتفاع التدريجي لدرجة حرارة الكوكب بسبب التلوث الجاري في عصرنا، وارتفاع نسبة ثاني أكسيد الكربون في جو الأرض، وغير ذلك من عوامل، وبهذا فإن الآية القرآنية تؤكد أن الشواطىء بصفة عامة ومستمرة ما هي إلا تضاريس عابرة مؤقتة تتغير مواقعها في الماضي إلى حدود جديدة في المستقبل... وقصة سيدنا نوح في القرآن الكريم تذكرنا بنقص من أطرافها في الطوفان العظيم.
( 3 ) تأثير عوامل التعرية بإنقاص الأرض من أطرافها، فالجبال المرتفعة مثلاً ليست دائمة أو خالدة، لأن الصخور تتحطم وتتآكل بمرور الزمن بمساعدة المياه الجارية على سفوحها وتأثير الرياح الشديدة، ويتحرك حطام الصخور عادة من هذه القمم العالية ( التي تمثل أطراف الأرض ) إلى الوديان المنخفضة، وقد رأينا ذلك بأعيننا في زلزال ألاسكا عام 1964م الذي هز جبلاً عالياً وحطم جزءاً كبيراً من قمته في بضع دقائق، وهكذا ينقص الله سبحانه الأرض من أطرافها على مستوى الكوكب أو المستوى المحلي على الدوام، إما بالتدريج أو بالزلازل المفاجئة.
( 4 ) الإشارة إلى الفرق بين طول قطري الأرض الاستوائي والقطبي كدليل آخر على نقصها من أطرافها وكل هذه المعاني تقع في إطار الشرح العلمي للآية السابقة [ الرعد: 1]، التي تشير إلى إنقاص الأرض من أطرافها، ولو أن المفسرين القدامى رضي الله عنهم جميعاً ذهبوا إلى غير ذلك لأنهم لم يعرفوا كل هذه الحقائق العلمية.
والآن وقد أصبح لدينا البرهان العلمي الساطع لكروية الأرض ونقص أطرافها علمياً وقرآنياً كإعجاز ظهر في عصر الفضاء حتى تم التقاط صور عديدة للأرض من سفن الفضاء ومن سطح القمر، نبدأ في بيان الإعجاز العلمي للقرآن في آيات الحركة الأولى للأرض، أي: دورانها حول نفسها.
ثانياً ـ دوران الأرض حول نفسها مغزلياً:
ذكرنا في الجزء السابق في الأرض تبدو ظاهرياً مسطحة، بينما هي في الواقع كروية، وشتان بين الظن واليقين، فلقد طالعنا العلم الحديث بدوران الأرض حول نفسها وحول الشمس رغم سكون الأرض الظاهري الخادع لنا معشر البشر....
والإيمان بدوران الأرض أعصى من الإيمان بكرويتها، لأن الدوران حركة، وقد تعوّد الناس بالشعور بالحركة، وإذا كان قد قيل لهم: إن الأرض تتحرك لسارعوا إلى التكذيب، فكيف تتحرك وهم يرونها ساكنة لا يشعرون بدورانها ويعتقدون أنها ثابتة في مركز الكون، بينما باقي الأجرام السماوية تدور حولها فيما أطلق عليه الجميع ( النظرية المركزية الأرضية ) التي وضعت الأرض ثابتة لا حراك فيها في مركز دوران الجميع، أي: أن الشمس والكواكب والنجوم تدور سوياً مع دوران قبة السماء يومياً من الشرق إلى الغرب حول الأرض ـ الساكنة فرضاً ـ ولقد ظلت هذه النظرية الخاطئة سائدة حتى وقت قريب، ولقد ساهمت هذه الحركة الظاهرية اليومية الخادعة للقبة السماوية وأجرامها في إعطاء الانطباع الخاطىء بثبات الأرض وعدم تحركها، ولم يجرؤ أحد على تحدي هذا الانطباع إلى أن جاء كوبرنيكس عام 1543م، ونشر نظريته الجديدة التي وضعت الشمس لأول مرة في مركز المجموعة الشمسية وتدور الكواكب بما فيها الأرض، كل في مداره المستقل حول الشمس علاوة على دوران هذه الكواكب دوراناً مغزالياً، كل حول محوره المستقل.
وبهذا أعلن كوبرنيكوس أن الأرض تدور حول محورها مرة كل 24 ساعة، فيحدث تبادل الليل والنهار، وتدور حول الشمس مرة كل عام فيحدث تغير الفصول، وبهذا عرف الناس لأول مرة أن الأرض متحركة وليست ساكنة، وكان هذا الإعلان كارثة في أوروبا في القرن السادس عشر الميلادي، وتعجبت الكنيسة لهذا الخبر الذي يتناقض للأسف مع معتقداتهم، ومع الإحساس الظاهري للبشر، ومع الجبال الساكنة في نظر كتاب النصوص المقدسة!... ولهذا قررت الكنيسة محاكمة هؤلاء العلماء في ذلك الوقت واتهمت كوبرنيكس بالكفر، ومصادرة وإحراق أبحاثه عن حركات الأرض، فهرب من روما حتى لا يتم القبض عليه، بينما أمر البابا بإحضار جاليليو بالقوة رغم شيخوخته وسوء صحته للتحقيق معه لتأييده فكرة تحرك الأرض، وحكمت الكنيسة عليه بالسجن مدى الحياة، وتوفي وهو مؤمن بدوران الأرض، كما أعدمت الكنيسة برونو حرقاً في ميدان عام لدفاعه عن تحرك الأرض وتوقع وجود أراضين أخرى!.
وهكذا كان اضطهاد الكنيسة للعلماء قاسياً، بل ومهزلة كبرى، مما أدعى إلى الانفصام والعداء بين العلم والدين في أوروبا، وبدأت فعلاً الثورة العلمية الكبرى في أوروبا في القرن السابع عشر وتحدى العلماء الكنيسة كرد فعل استرداداً لكرامتهم، وأعلنوا صراحة معارضتهم للكتب المقدسة كالتوراة والإنجيل لاحتوائها على عبارات تتعارض مع الحقائق العلمية، لأن نصوصها جميعاً توحي بسكون الأرض وعدم تحركها... وانتصر العلم وتراجع رجال الكنيسة وتقلص نفوذهم ودفعوا ثمن تحويرهم للكتب المقدسة، كما في قوله تعالى: )فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله (.
والآن! وقد ثبت علمياً أن الأرض تدور حول نفسها، بل وتنطلق أيضاً في الفضاء، ونحن معشر البشر نعيش على سطحها في هدوء واستقرار، ولكننا في الواقع أشبه ما نكون بركاب سفينة فضاء إلهية كروي تقريباً وسقفها الغلاف الجوي المحيط بها، تدور حول نفسها حالياً مرة كل 24 ساعة، وتدور أيضاً حول الشمس في مسار دائري تقريباً ( مرة كل سنة ميلادية ) نصف قطره 93 مليون ميل، كما تتبع الأرض الشمس في جريانها حول مركز المجرة وتتبعها في جريانها مع المجرة في الفضاء الكوني، ورغم أن كل هذه التحركات تتم بسرعات جبارة مقدارها على الترتيب 1044، 67000، 497000 ، 43000 ميل / ساعة، فإننا مستقرون فوق الأرض لا تتناثر أشلاؤنا ولا نشعر بالدوران أو الإغماء رغم أنها تتحرك، بل ترمح بنا في الفضاء دون أن تقذف بنا من على سطحها ودون أن تتعثر خطاها ودون أن نشعر بحركاتها.
ورغم كل هذه التحركات التي كشف عنها العلم الحديث لكوكب الأرض فإنه ما زال هناك من البشر، بل من المسلمين من ينكر دوران الأرض وتحركاتها المختلفة، لأن هذه الحقائق لا يشعر بها الناس نظراً لخفائها، فلو أن القرآن الكريم صارحهم وقت نزوله بحركات الأرض وهم يحسبونها ساكنة لكذبوه، وحبل بينهم وبين هدايته، فكان من الحكمة البالغة ومن الإعجاز العلمي والبلاغي في الأسلوب القرآني أن ينبه الله سبحانه وتعالى الناس إلى هذه الحقائق الكونية على قدر عقولهم بالإشارة، وليس بصريح العبارة في آيات قرآنية كريمة، من غير مخالفة للحقائق العلمية، بحيث يفهمون نصوص الآيات بقدر ما تيسر لهم من العلم في كل زمان، حتى إذا تقدم العلم كما هو حالنا الآن وجدوا في معاني القرآن ما يكشف تلك الحقائق، وهذا إعجاز في الأسلوب، فضلاً عن المعنى، لا يقدر عليه إلا الله، وقد تندهش ـ عزيزي القارىء ـ أن حركات الأرض كلها والمذكورة هنا مشار إليها قرآنياً في إعجاز علمي رائع... وفيما يلي أبدأ بالحركة الأولى وأعني الحركة المغزلية:
( أ ) الحركة المغزلية للأرض:
لقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى دوران الأرض حول نفسها كالمغزل من خلال الوصف الدقيق لنظام تولد الليل والنهار، كما في قوله تعالى:
)يغشى الليل النهار يطلبه حثيثاً ([الأعراف: 54].
)يغشى الليل النهار ([الرعد: 3].
)يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل ([الزمر: 5].
)يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ([لقمان: 5].
)وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون ([يس: 37].

دوران الأرض المغزلي حول نفسها ينتج عنه الليل والنهار
وقد وضح المفسرون آية الإعشاء بأنه تعالى يغطي أو يلحق زمنياً كلاً من الليل والنهار بالآخر بسرعة، أو أنه يجعل زمن الليل وزمن النهار يتعاقبان بسرعة على الأرض، كما أوضح المفسرون آية الانسلاخ بأنه تعالى يفصل أو يزيل النهار من الليل فيدخل الناس في الظلام، وفسروا المقصود بالتكوير والإيلاج أنه تعالى ينقص في زمن الليل بقدر ما يزيد في زمن النهار، وبالعكس.
وبهذا كان مفهوم الليل والنهار لدى المفسرين مفهوماً زمنياً في هذه الآيات، وهذا هو المعنى الأصلي اللغوي، ولكننا إذا تدبرنا هذه الآيات في عصر العلم الحديث لوجدنا معاني أخرى مقصودة تشير إلى أن لفظي الليل والنهار يقصد بهما في القرآن في معظم الآيات لازمين من لوازمهما، وذلك: إذا استخدمنا ما يسمى في البلاغة بالمجاز المرسل لغوياً، والذي أخذ به المفسرون في آيات أخرى بمعنى الظلام والنور ( وليس بالمعنى الزمني ) كما في تفسيرهم لقوله تعالى على سبيل المثال:
)والليل إذا يغشى. والنهار إذا تجلى ([الليل: 1 ـ 2].
)وجعلنا الليل لباساً. وجعلنا النهار معاشاً ([النبأ: 10 ـ 11].
)وهو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً ([يونس: 67].
وبهذا ذكر الله الليل والنهار في هذه الآيات الأخيرة قاصداً بالليل ظلمته، وبالنهار نوره، وقرينة هذا القصد:
1ـ قوله تعالى في الأولى: )يغشى (، )تجلى ( لأن الذي يغشى، أي: يغطي الأرض، هو ظلمة الليل لا زمنه، وما يتجلى أي: يظهر بوضوح على الأرض هو نور النهار في الغلاف الجوي وليس زمنه.
2ـ قوله تعالى في الثانية: )لباساً (، )معاشاً (،لأن ما يغطي الناس كاللباس هو ظلمة الليل لا زمنه، وما يساعد على المعاش هو نور النهار وليس زمنه.
3ـ قوله تعالى في الثالثة: )لتسكنوا فيه (و )مبصراً (لأن زمني الليل والنهار لا يساعدان مطلقاً على السكون والإبصار، وإنما يساعد عليها ظلمة الليل ونور النهار، وبهذا يتضح أن المفسرين وضحوا هذه الآيات الثلاثة الأخيرة بالمعاني التي ذكرناها، أي: باستخدام المجاز المرسل بتأويل والنهار بمعنى الظلام والنور مع الأخذ بالمفهوم الأصلي الزمني لليل والنهار، وهذا صحيح ولكنهم لم يستخدموا هذا المجاز في آيات الأغشاء والتكوير والإيلاج والسلخ!!.
ولو تبصرنا، نحن الآن، في نور القرآن والعلم، وتدبرنا آيات تولد الليل والنهار الخاصة بالإغشاء [ الأعراف: 54 ، والرعد: 3 ]، والتكوير [ الزمر: 5] ، والإيلاج [ لقمان: 5]، والسلخ [يس: 37]، تجد أن هذه الآيات مقصود بها أيضاً المجاز المرسل، أي: لوازم الليل والنهار وليس زمنهما، ولتوضيح ذلك نتعرض أولاً لمفهوم المجاز المرسل لغوياً بمعنى إطلاق اللفظ أو الشيء، وقصد أحد لوازمه مع وجود قرينة تدل عليه، مثال ذلك عندما أقول: ( قر مجلس القسم ) أعني تماماً: ( قرار أعضاء مجلس القسم ) لأن المجلس لا يقرر، ولكن الأعضاء هم الذين يتخذون القرار وعضو هيئة التدريس لازم للمجلس، وإذا استعرضنا لوازم الليل والنهار في علم الطبيعة نجد عددها ستة بخلاف المعنى الأصلي الزمني وهي مازاً: ظلام الليل ونور النهار، مكان حدوث الليل ومكان حدوث النهار، سبب حدوث الليل وسبب حدوث النهار.
وباستخدام الاحتمالات المنطقية من هذه اللوازم نصل ـ بإذن الله ـ إلى التفسير العلمي لآيات الإغشاء والتكوير والإيلاج والسلخ، على الترتيب، ونصل أيضاً إلى إعجاز علمي قرآني عجيب!.
( أ ) آيات الإغشاء:
قال تعالى: )يغشي الليل والنهار ( ومعناها: على اعتبار أن فيها حذفاً تقديره:
يغشي الليل والنهار ويغشي النهار الليل، أي: أنه تعالى يغطي بالليل النهار ويغطي بالنهار الليل على سطح الأرض، وحيث إنه لا معنى لتغطية زمن بزمن فيكون المعنى بالمجاز المرسل: 0 يغطي الله بظلمة الليل مكان النهار على الأرض فيصير ليلاً، ويغطي الله بنور النهار مكان الليل فيصير نهاراً )، والقرينة على هذا المعنى المقصود قوله سبحانه: )يغشي (أي: يغطي، لأن الإغشاء يقتضي تغطية شيء بشيء، والأول المراد تغطيته هو مكان النهار ثم مكان الليل، والثاني: وهو الغطاء هو ظلمة الليل ثم نور النهار.
يقول تعالى: )يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً ([الأعراف: 54].
وهذه الآية جاءت لتصف تعاقب الليل والنهار عقب تمام خلق السماوات والأرض، حيث جعل الله ظلمة الليل تطلب مكان النهار، وضياء النهار يطلب مكان الليل على الأرض بسرعة لا بطء فيها في بداية تاريخ كوكب الأرض، وهذا لا يحدث إلا بدورانها سريعاً حول محورها، بحيث يتعاقب الليل والنهار بدليل العبارة القرآنية )يطلبه حثيثاً (وبذلك لا يبقى مكان على الأرض دائم الليل أو دائم النهار علاوة على أن الدوران السريع للأرض في بداية الخلق إعجاز علمي سنوضحه فيما بعد.
( ب ) آية التكوير:
قال تعالى: )يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل (، والتكوير كما ذكرناه أصل معناه في اللغة: لف شيء على آخر في اتجاه مستدير ( مثال: كار العمامة على رأسه )، وحيث إنه لا معنى لتكوير ( أي: لف ) زمن على زمن، فإننا منطقياً لا بد أن نبحث عن المعنى المقصود باستخدام المجاز المرسل، وبهذا فإن التفسير العلمي الصحيح لهذه الآية هو: يكور ( أي: يلف أو ينشر في اتجاه مستدير ) الله تعالى ظلمة الليل على مكان النهار على سطح الأرض فيصير ليلا، ويكور سبحانه نور النهار على مكان الليل فيصير نهاراً، وهذا معناه بلغة علم الطبيعة والفلك: ( لف الأرض الكروية حول محورها أمام الشمس )، وذلك حتى يحدث تتابع الليل والنهار في الغلاف الجوي للأرض، ويؤيد ذلك: آية الإيلاج وتكرار الفعل يولج، وآية التكوير وتكرار الفعل يكور، فالتكرار هنا يؤكد الحركة المغزلية للأرض لكي يحدث تتابع الليل والنهار، ويحل أحدهما مكان الآخر.
( جـ ) آية الإيلاج:
قال تعالى: )يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل (،والإيلاج أصل معناه: إدخال شيء في آخر بحيث يحيط به ويساويه، حجماً ومساحة، وحيث إنه لا معنى مطلقاً لإيلاج زمن الليل في زمن النهار أو بالعكس، فإن المقصود من تعاقب الليل والنهار بإيلاج كل منهما في الآخر هو بالمجاز المرسل، إيلاج لازم من لوازم الليل في آخر من لوازم النهار السابق ذكرها والمعنى المنطقي المقصود باختيار اللازم المناسب هو ( يولج الله مكان الليل في مكان النهار فيصير نهاراً، ويولج مكان النهار في مكان الليل فيصير ليلاً. أي: يجعل مكان الليل يحل محل مكان النهار والعكس بالعكس على سطح الأرض ).

صورة للأرض ويظهر فيها كيف الليل يلج في النهار
وهذا معناه بلغة الطبية والفلك: أنه تعالى يجعل الأرض تدور حول نفسها أمام مصدر الضياء من الشمس ( أو النجوم بالنسبة للأرضين الأخرى )، فيتبادل كل من الليل والنهار مكان الآخر على الأرض، أي: يحل الأول محل الثاني، وبالعكس بالتساوي تماماً، وبذلك يتعاقب الليل والنهار على الأرض مع تساوي مساحة مكان كل منهما، أي: تساوي حجم نصفي الكرة الأرضية حول محورها، حتى يتوفر معنى الإيلاج لغوياً، وحيث إن سطح الأرض منحني ومنقسم قسمين أحدهما يكون نهاراً والآخر ليلاً، وذلك نتيجة من آية التكوير، وحيث إن مكان الليل والنهار على الأرض متساويان ويتبادل كل منهما مكان الآخر بدورانها حول نفسها ( معنى آية الإيلاج )، وحيث إن هذا التبادل يستلزم تماثل وتساوي المكانين حجماً ومساحة حتى يمكن إحلال كل منهما محل الآخر، لأنه إذا زاد أو نقص ـ أي: المكانين عن الآخر ـ لا يتحقق هذا التبادل المتماثل في الإحلال، ولا يتحقق المعنى اللغوي للإيلاج في الهندسة الفراغية، وهذا التماثل يؤدي إلى استنتاج كروية الأرض وانتظام شكلها، لأن نصفيها متساويان والمحور ينصف الكرة تماماً.
والخلاصة: أن نظام تولد الليل والنهار طبقاً للوصف القرآني يؤدي إلى أن الأرضين عموماً خلقت كروية الشكل تدور كل أرض حول نفسها، أي: حول محورها الذي لا بد وأن يقسمها قسمين متساوين تماماً أمام النجوم، أي: الشموس الملازمة لها، فصار الليل والنهار يتعاقبان بالإغشاء والتكوير والإيلاج، وكل لفظ منها يؤكد الحركة المغزلية للأرض، أليس هذا إعجاز قرآني عزيزي القارىء!.
( د ) آية الإنسلاخ:
يقول تعالى: )وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون ([يس: 37].
والسلخ أصل معناه فصل الجلد من اللحم، وحيث إنه لا معنى لسلخ زمن النهار من زمن الليل، وأن الآية أو الدليل المقصود على قدرة الصانع جل وعلا ليس هو زمن الليل بل مكانه الذي ينسلخ منه النهار بدوران الأرض مغزلياً، فيكون تعالى قد ذكر الليل وقصد مكانه الذي يحدث فيه، وقرينته قوله تعالى: )وآية لهم (،ثم قوله تعالى: )نسلخ منه النهار (،أي:نسلخ من الليل، والمقصود: نسلخ من مكان الليل نور النهار، وقرينته قوله: )نسلخ (لأن السلخ يقتضي فصل شيء من شيء، وهو فصل النور من مكانه الذي سيصير مكان الليل.
وبناءً على ذلك: يكون معنى الآية: ودليل لهم ( للناس ) على قدرتنا مكان الليل، إذ نسلخ أو نزيل منه نور النهار من مكانه على الأرض تماماً، كما نسلخ الجلد من اللحم فيدخل الناس في الظلام.
وإن في تشبيه إزالة نور النهار من سطح الأرض بإزالة الجلد من اللحم إشارة قوية لبيان أن ضوء النهار ينشأ في سطح الغلاف الجوي للأرض، ولا يمتد إلى باطنها، كما ينشأ جلد الحيوان من لحمه ولا يمتد إلى باطنه، وبهذا فإن نور النهار مكتسب ومعكوس من سطح الأرض ومشتت في غلافها الخارجي، وليس ضوءاً ذاتياً كما في النجوم، وبهذا تظهر الحكمة في التعبير القرآني بسلخ نور النهار من الغلاف الجوي الذي يصبح ظلاماً بدون أشعة الشمس، كما أن الليل أو الظلام هو الأصل في الكون، فظلام الفضاء الكوني سائد حول جميع الأجرام لعدم وجود ذرات كافية في الفضاء لإحداث التشتت لضوء النجوم الذي لا يظهر إلا بالانعكاس على سطوح الأجرام أو التشتت في غلافها الجوي.
مما تقدم يتضح أن النتائج المستنبطة[3]من آيات توليد الليل والنهار بالإغشاء والتكوير والإيلاج والسلخ نتائج علمية هامة، ولكنها صعبة الفهم على ذهن من لم يكن ملماً بعلم الطبيعة والفلك إلماماً كافياً، وكما أنها نتائج لم يصل إليها علماء التفسير من قبل لتمسكهم بالمعنى الزمني لليل والنهار، وكان لهم في ذلك عذر واضح هو أن يجعلوا من تفسيرهم معنى يسهل فهمه ويتفق مع ما يعتقدوه ومع ما يشاهده الناس من سكون ظاهري للأرض، جزاهم الله خيراً على مجهودهم، ولو أن تفسيرهم للآيات الكونية لا يتفق تماماً مع بلاغة القرآن في الإيجاز الجامع ولا يظهر إعجازه العلمي، لأنه يجعل للآيتين المختلفتين معنى واحداً، كما فعلوا في آيات التكوير والإغشاء والإيلاج، بدلاً من المعاني المختلفة التي توصلنا إليها في هذه المحاضرة كما تقضي بلاغة القرآن وإعجازه العلمي.
والقرآن لا ينكر صعوبة القضية، بل يصرح بها في آيات مختلفة بقوله سبحانه: )إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ([آل عمران: 190].
وأولي الألباب: أي: أولى العقول المتعلمة المتخصصة، وقوله تعالى مشيراً إلى دوران الأرض حول نفسها: )والليل إذا يسر هل في ذلك قسم لذي حجر ([الفجر: 4].
والحجر معناه: العقل المفكر، وهذا القسم يصف الليل بالحركة كناية بالغة عن حركة الأرض حول نفسها، ولقد تكرر هذا القسم بقوله سبحانه:
)والليل إذا أدبر... ([المدثر: 33]. )والليل إذا عسعس ([التكوير: 17].
وفعل عسعس معناه: أقبل ظلامه أو أدبر، وفعل يسر معناه: التحرك كما ذكرنا.
ونلاحظ أيضاً: أن الله لم يصف النهار بالإقبال والإدبار، لأن هذا أمر طبيعي ينتج من إدبار الليل وإقباله، بل وصفه بالوصف الخاص بظواهر النور وسلوك الضوء القادم من الشمس أثناء اختراقه لطبقات الغلاف الجوي المحيط بالأرض مسبباً بالانكسار والتشتت والانعكاس ظواهر الإسفار في أول النهار، والشفق في آخر النهار، والنور أثناء النهار، ولولا الغلاف الجوي لساد الظلام فوق رؤوسنا رغم بزوغ الشمس، كما هو الحال في الفضاء، فتأمل قوله تعالى:
)والصبح إذا أسفر ([المدثر: 34].
)والنهار إذا جلاها ([الشمس: 3].
وليس على القمر نهار كالذي نعرفه على الأرض تتجلى فيه الشمس، فسماء القمر حالكة السواد، وكذلك الفضاء بعد مغادرة الغلاف الجوي للأرض، أليس في كل هذا القسم بالليل والنهار أكبر داع لنا أن نتأمل ونتساءل عما أودع الله منهماا من عظيم حكمته ومظاهر عظمته وقدرته حتى استحقت أن يقسم الله لعباده بها وهو خالقهم وخالقها.
وهناك آيات قرآنية أخرى تشير إلى دوران الأرض حول نفسها مغزلياً كما في قوله تعالى: )يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ([النور: 44].فالتقليب هنا حقيقة تحدث فعلاً، ويعني الحركة، وإحلال أحدهما محل الآخر حتى يتم التقليب، مشيراً بذلك على الدوران المغزلي للأرض بصريح العبارة بإحلال مكان الليل مكان النهار وبالعكس، وسبحانه الله مقلب الليل والنهار ومنزل القرآن.
يتبع
0
0
0
0