الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد ..
الجهاد شعيرة عظمى من شعائر الإسلام ، أمر بها الله - جلا وعلا -
فقال : { انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله }، وقال سبحانه : { وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة }
، وفي حديث أنس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال : ( جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم ) بل إن المصطفى - عليه الصلاة والسلام- قال : ( من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو ، مات على شعبة من نفاق ) ، وعدّ الرسول الكريم الجهاد ذروة سنام الإسلام ، وقال في فضيلته : ( اعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف ) .
والشهادة في سبيل الله من أعظم الأعمال أجراً ، وطلبها ، والسعي إليها مشروع ، وقد عقد البخاري في صحيحه كتاباً كاملاً للجهاد وأورد فيه : [ باب تمني الشهادة ] وروى فيه حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : ( والذي نفسي بيده لولا أن رجالاً من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني ، ولا أجد ما أحملهم عليه ، ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله ، والذي نفسي بيده لوددت أني اقتل في سبيل الله ، ثم أحيا فأقتل ، ثم أحيا فأقتل ) .
وطلب الشهادة من الناحية العملية له أمثلة كثيرة من حياة الصحابة - رضوان الله عليهم - كما فعل أنس بن النضر في يوم أحد حين قال : " واهاً لريح الجنة إني لأجده دون أحد " ، ثم خاض في صفوف الأعداء يقاتل حتى قتل ، وفي جسده بضع وثمانون ما بين ضربة ، وطعنة ، ورمية ، ليس بينها واحدة في ظهره ،
وفي يوم اليمامة لما تحصّن مسيلمة الكذاب ، ومن معه من بني حنيفة في حديقة ذات أسوار ، قال البراء بن مالك لأصحابه : ضعوني في الجحفة ، وألقوني إليهم - أي من فوق السور - فألقوه عليهم ، فقاتلهم حتى فتح الباب للمسلمين .
والعمليات الاستشهادية التي ينفذها المجاهدون المسلمون ، ضد أعداء الإسلام من اليهود وغيرهم ، يكون من بين ضحاياها منفذو العملية ؛ لأن طبيعة عمليات التفجير في وسط العدو تتضمن قتل واستشهاد المنفذ ، ومن هنا وردت شبهات :
الأولى :
أن هذا من باب الانتحار ، وقتل المرء نفسه لأنه يغلب على ظنه بل ربما يستيقن أنه سيموت ، والانتحار وإزهاق النفس محرم .
والثانية :
أن هذه العمليات تشتمل على قتل من لا ينبغي أن يقصد بالقتل ، من الأطفال والنساء ، والمدنيين غير المقاتلين .
وقبل الرد على هاتين الشبهتين أقول : إن القول بجواز هذه العمليات الاستشهادية ، وأن المقتولون فيها شهداء ، قد قال به جماعة من العلماء المتقدمين والمتأخرين ، والقول بالجواز له أدلة ، أما أقوال الفقهاء فأنقل منها طائفة :
1-قال محمد بن الحسن الشيباني - رحمه الله - : " لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين ، وهو وحده ، لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة ، أو نكاية في العدو ، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه ، لأنه عرّض نفسه للتلف في غير منفعة المسلمين ، فإن كان قصده تجرئة المسلمين عليهم ، حتى يصنعوا مثل صنيعه فلا يبعد جوازه، ولأن فيه منفعة للمسلمين على بعض الوجوه ، وإن كان قصده إرهاب العدو ، وليعلم صلابة المسلمين في الدين فلا يبعد جوازه ، وإذا كان فيه نفع للمسلمين ، فتلفت نفسه لإعزاز الدين ، وتوهين الكفر ، فهو المقام الشريف الذي مدح الله تعالى المؤمنين بقوله : { إن الله اشترى من المؤمنين أموالهم وأنفسهم بأن لهم الجنة } ، إلى غيرها من آيات المدح التي مدح الله تعالى بها من بذل نفسه ".
2-نقل ابن العربي المالكي - رحمه الله - في أحكام القرآن ، عن بعض علماء المالكية قولهم : " لا بأس أن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم ، إذا كان فيه قوة وكان لله بنية خالصة ، فإن لم تكن فيه قوة فذلك من التهلكة . وقد قيل : إذا طلب الشهادة ، وخلصت النية ، فليحمل لأن ، مقصده واحد منهم – أي واحد من المشركين – ليقتله . وذلك بين قوله تعالى : { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله } ، ثم قال : والصحيح عندي جواز الاقتحام على العساكر لمن لا طاقة له بهم – لأن فيه أربعة وجوه :
أولاً : طلب الشهادة .
ثانياً : وجود النكاية .
ثالثاً : تجرئة المسلمين عليهم .
رابعاً : ضعف نفوسهم ، ليروا أن هذا صنع واحد ، فما ظنك بالجمع " .
3- قال ابن تيمية - رحمه الله - في الفتاوى : " .. وقد روى مسلم في صحيحه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصة أصحاب الخدود وفيها ؛ أن الغلام أمر بقتل نفسه ، لأجل مصلحة ظهور الدين " ، ولهذا جوّز الأئمة الأربعة أن ينغمس المسلم في صف الكفار ، وإن غلب على ظنه أنهم يقتلونه ، إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين ، فإذا كان الرجل يفعل ما يعتقد أنه يقتل به لأجل مصلحة الجهاد ، مع أن قتله نفسه أعظم من قتله لغيره ؛ كان ما يفضي إلى قتل غيره لأجل مصلحة الدين التي لا تحصل إلا بذلك ، ودفع ضرر العدو المفسد للدين والدنيا الذي لا ينفع إلا بذلك أولى " .
https://www.palislam.com/