[frame="1 80"]لقد تخطى الشيخ جابر الاحمد حدود الوطن العربي ـ وهذا واضح للعيان في سياسته الخارجية ـ ليمس قضايا العالم الثالث والشعوب المقهورة في الصميم.. حارب التمييز والتفرقة العنصرية.. حارب الفصل العنصري في جنوب القارة الافريقية.. دعم حركات التحرير الوطني اينما وجدت في العالم، وبخاصة في افريقيا... اصبحت مديونيات العالم الثالث في نظره تساوي حالة من الاستعمار الجديد.. خاطب الضمير العالمي من فوق منبر الامم المتحدة عندما طالب الدول الدائنة بمراعاة الاوضاع الاجتماعية والانسانية في الدول المدينة، ومارسها عملياً حين اسقط فوائد الديون عن كاهل الدول المدينة للكويت، بل ونظر في اصول الديون بالنسبة للدول الاشد فقراً.. كما طالب البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي بأن يكونا اكثر عدالة مع الدول المحتاجة والدول الساعية الى التنمية.
هذه الشخصية الاقتصادية العالمية التي تمكنت من تنمية موارد الوطن المالية التي لم تكن تتجاوز ثلاثة من الملايين الاسترلينية في عام 1960م، لتصل الى اكثر من 90 مليار دولار في عام 1990م.. هذه الشخصية الباحثة دوماً عن التنمية لم تسخر هذه الثروة من اجل التنمية في الكويت فحسب، بل تجاوز ذلك الى الدول العربية والعالم الثالث، سواء أكان من خلال المنح والمساعدات المباشرة او من خلال الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية، والتي تقدم على هيئة قروض ميسرة، وبفوائد لا تتجاوز 2% مما جعل الكويت في مقدمة الدول المانحة للمساعدات الخارجية.
ففي مارس عام 1995 وامام مؤتمر القمة العالمي للتنمية الاجتماعية الذي عقد في «كوبنهاغن/الدانمرك» تحت اشراف الامم المتحدة، وقف الشيخ جابر الاحمد معلناً ان الكويت قد اخذت على عاتقها منذ استقلالها المشاركة في عمليات التنمية الدولية، وصولاً الى الاسهام الفاعل في صنع التقدم والسلام، وبخاصة المشاركة في تقديم العون والمساعدة لدول وشعوب العالم الثالث، وفي مقدمتها الدول الاكثر فقراً واحتياجاً، وانه تحقيقا لهذا التوجه الانساني والحضاري الذي تستمد دولة الكويت مقوماته من دينها وتراثها وتجربتها الحضارية القائمة على التضامن والعطاء الانساني، وبناء جسور التفاهم والصداقة مع دول العالم، فإن مساعدات الكويت الخارجية لم تتوقف يوما تحت اي ظرف من الظروف الاستثنائية القاهرة.
فقد تراوحت نسبة هذه المساعدات الى الناتج القومي بين 5% الى 8% خلال عقد السبعينيات لتنخفض الى ما بين 3% الى 4% خلال عقد الثمانينيات بسبب الازمة الاقتصادية التي تعرضت لها الكويت من جراء كارثة سوق الاوراق المالية التي عرفت بأزمة (سوق المناخ) اما في عقد التسعينيات فانه على الرغم من آثار كارثة الاحتلال وتداعياتها الاقتصادية التي لم يتعاف منها الاقتصاد الكويتي، وكذا وتداعياتها القاسية التي عصفت باستقرار كيان الدولة، فإن هذه الاثار السلبية مجتمعة لم تمنع الكويت من مواصلة دعمها والوفاء بتعهداتها. والتزاماتها حيال دول العالم الثالث، بل ان حرصها على المحافظة على هذه الثوابت الراسخة في وجدان المجتمع الكويتي المحب للخير بطبعه، جعل نسبة مساعدتها ترتفع الى 4،4% حتى منتصف عقد التسعينيات.
ان القريب من الشيخ جابر الاحمد يدرك تماماً انه قليل الكلام كثير الافعال، لديه جلد على مواصلة العمل لساعات طويلة دون كلل او ملل، وهو من اولئك الرموز القياديين الذين لا يحبذون الحديث عن ذاتهم الشخصية، او استعراض انجازاتهم، بل يميل دوماً الى العمل بهدوء دون ضجيج، عملاً بقوله تعالى: (وقل اعملوا فيسرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) وهو مستمع جيد يحترم كثيراً رأي الاخرين، لكنه يرفض باصرار ان تتوه الحقيقة وسط الجدال. وبالتالي فإن كثيرا من قراراته كانت تتبع من هذا الادراك، وكان آخرها قراره الحضاري بمنح المرأة الكويتية كامل حقوقها السياسية، وذلك بعد جدال دام حوالي خمسين عاماً من الاخذ والرد في الاوساط التشريعية الكويتية، وفي المنتديات الشعبية، واللقاءات والحوارات الفكرية التي شملت البلاد كلها.
نعود ثانية، فنقول: انه على الرغم من عزوف الشيخ جابر الاحمد عن الاضواء والحديث عن الذات، الا انه بأفعاله وادارته الرشيدة بصفته رئيس دولة، وواحداً من قادة العالم المشهود لهم بالحكمة والموضوعية، ما يجعله شخصية عالمية لها وزنها في المجتمع الدولي. وان سيرته الذاتية تشهد بانجازاته العظيمة منذ ان دخل معترك العمل السياسي والانمائي، وهي انجازات تركت ارثاً حضارياً وموقعاً دولياً مميزاً للكويت وشعبها.
فنحن عندما نقرأ السيرة الذاتية للشيخ جابر الاحمد لا نقف امام احداث ومحطات، او قرارات ومراسيم اميرية مر عليها الزمن، انما نقرأ مسيرة وطن وشعب تفاعل، وامتزجت افكاره معه عبر مراحل بناء الكويت ونمائها وتطورها، وعليه فقد جاءت المحصلة النهائية مجتمعاً جديداً حضارياً بكل معطياته ومقوماته، ليصبح اسم لكويت عالياً في سماء الدنيا.. فتح امامها اسواقاً عالمية، واوجد لها موطىء قدم ضمن اقتصاديات الدول الكبرى بصفتها شريكاً فاعلاً ومنافساً بشرف وامانة، وجعل الكويت عزيزة بين الامم، رشيدة في سياستها، حكيمة في علاقاتها.
هذا الاساس المكين والبناء المتين الذي اسهم الشيخ جابر الاحمد في ارساء قواعده خلال فترة حكمه وما قبلها. جعلت الدول الكبرى تهب وتسارع الى نجدة الكويت ساعة المحنة، وغدر الاخ العربي، لانه لم يكن هناك ـ لحظتها ـ وجه مقارنة بين نظام ديكتاتوري استبدادي حاكم، ونظام منفتح على العالم الحر، يشاركه افكاره وممارساته الديمقراطية والانسانية، ويسهم معه بقوة وايمان في ارساء دعائم السلام والعدالة الاجتماعية.
هذه المسيرة الطويلة التي قطعها الشيخ جابر الاحمد، والتي استمرت زهاء اكثر من نصف قرن، قضى منها حتى الان اثنين وعشرين عاماً في سدة الحكم، ارسى خلالها ـ بلا شك ـ قواعد متينة لدولة عصرية، حافظ فيها على الاصالة والثوابت السياسية والاجتماعية التي انتهجها، وسار عليها الآباء والاجداد، والرعيل الاول من بناة الكويت.
في هذه المسيرة النضالية من اجل كويت المستقبل، وما صاحبها من تحولات نوعية في اتجاه الحداثة والانفتاح على العصر، لم يكن الشيخ جابر الأحمد وحده في ساحة النضال، بل ساعدته وآزرته عقول وخبرات اقتصادية وسياسية وطنية وعالمية في ترتيب البيت الكويتي، كانت لحظتها تمثل خلاصة الفكر الدولي والعربي في هذين الحقلين المهمين، بجانب جهود وافكار شباب الكويت الذين قدموا من جامعات العالم حينذاك ليحتضنهم ويدفعم للعمل مع هؤلاء الخبراء العالميين، يستزيدون منهم علماً ومعرفة وخبرة، حتى بات اغلبهم فيما بعد خبراء يقودون مسيرة التطور والبناء في المجتمع الجديد.
ولقد اجمع العاملون معه في مجال الاقتصاد والتنمية، والشاهدون على انجازاته من الرعيل الاول من رجالات الكويت، على ان قدرته الفائقة على التحليل بحسه الاقتصادي الفطري، وثقته بنفسه، وثقة كل من الشيخ عبد الله السالم الصباح، والشيخ صباح السالم الصباح الكبيرة فيه ومحبتهما له، هي التي دفعته هذه الدفعة القوية، مما جعل الامور الاقتصادية وغيرها جميعها بيده في ذلك العهد.
نأمل ان نكون قد وفقنا في تقديم سيرة حاكم، وشخصية عالمية لها دورها ليس فقط على مستوى بلده الكويت، والعالم العربي فحسب انما تجاوز بفكره وعطائه الانساني حدودهما ليصبح واحداً من ابرز دعاة العدالة الاجتماعية، ونشر الخير على ربوع دول العالم الثالث المحتاجة، وبخاصة الدول الاشد فقراً.
مثلما اجمع الكويتيون على حبهم للشيخ جابر الاحمد ليس بصفته حاكماً للدولة فحسب، بل لاحساس مختلف ابناء الكويت بأنه اب عطوف يشارك الجميع الافراح والاحزان، ويوجه لهم النصح والارشاد، ويدعوهم دوماً الى المحبة والتسامح، ونبذ الفرقة والخلاف، والعمل معاً في ظل روح الاسرة الواحدة.. هذه المشاعر الابوية والانسانية المتبادلة بين الشعب والحاكم تجلت في صور عديدة كان آخرها الوعكة الصحية التي ألمت به صباح يوم الجمعة 21 سبتمبر 2001م والتي غطى خبرها على كل الاخبار الساخنة محلياً، وانصرف الشارع الكويتي عن متابعة الاحداث المتلاحقة في واشنطن ونيويورك وكابول والوقوف على التوابع الجديدة للهجوم الارهابي على مركز التجارة العالمي ومبنى البنتاغون في الولايات المتحدة.
لقد حزنت الكويت يومها، واخذ الشعب الكويتي شيباً وشباباً... رجالاً ونساء يعبرون عن مشاعرهم بمختلف الصور والوسائل، سواء من خلال الكلمة وقصيدة الشعر، ام من خلال الاعلان في الصحف وارسال البرقيات الى مستشفى «كرومويل» في لندن حيث يتشافى الامير.
لقد شد المراقبون رسوم رياض الاطفال المعبرة التي جاءت بكل براءة وهي تزف للشيخ جابر الاحمد الشوق والمحبة، وتدعو له بطول العمر والشفاء العاجل، والعودة الحميدة الى ديار الوطن، مثلما شدهم بيانات مؤسسات المجتمع المدني المتمثلة في جمعيات النفع العام، والنقابات العمالية واتحاداتها ومنظمات اصحاب الاعمال وتنظيماتها، والجمعيات التعاونية بمختلف اغراضها، وكذا التكتلات السياسية العاملة في الساحة الكويتية.
هذه البيانات التي اجمعت على ان ما تعرض له امير البلاد من طارىء صحي انما تعرضت له الكويت كلها، وحزن له كل مواطن مخلص محب لبلده ولقيادته ونظامه السياسي.
من جهة ثانية تلقى نائب الامير الشيخ سعد العبد الله السالم الصباح يومها سلسلة من الاتصالات والبرقيات من عدد من قادة زعماء دول العالم، من بينهم السكرتير العام للامم المتحدة كوفي انان وامين عام جامعة الدول العربية عمرو موسى وامين عام مجلس التعاون لدول الخليج العربية جميل الحجيلان يطمئنون فيها عن صحة الامير، ويعربون عن الامل بالشفاء العاجل لزعيم احبه الجميع.
«يتبع»[/frame]