[frame="1 80"]الشيخ جابر الاحمد والمنهج الاداري
من المعروف عن الشيخ جابر الاحمد حبه الشديد وشغفه بالاخذ بأسلوب التخطيط في الامور الحياتية، وخاصة الخطط ذات البعد القومي الشامل التي تسعى الى تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الدولة. ويمكن لأي مراقب ان يعرف هذا الفكر، وتلك السياسة من خلال اهتماماته منذ بدايات عمله في الجهاز الحكومي، وترأسه فيما بعد لمجلس التخطيط، حيث تم على يده انجاز اهم مرحلة من مراحل الخطط الانمائية للدولة، ونعني بذلك المخطط الهيكلي الاول للبلاد وما تبعها من خطط هيكلية امتدت فيها مساحات العمران والبناء، ونمت المرافق، واستحدثت العديد من المدن السكنية والمناطق النموذجية التي ارتبطت ببعضها بشبكة من الطرق السريعة منها والبطيئة، والتي تعتبر اليوم واحدة من اهم الانجازات الرئيسية العمرانية التي تفتخر بها الكويت.
هذا الايمان الكبير بالتخطيط ـ بصفته من اهم مقومات الحضارة البشرية ـ دفع الشيخ جابر الاحمد في 14 فبراير عام 1978م، وبانتهاء فترة الحداد الرسمي على الامير الراحل الشيخ صباح السالم الصباح الى ان يوجه خطاباً الى المواطنين، اعتبر برنامج عمل افتتح به عهده في الحكم، تناول فيه اموراً عديدة على المستوى المحلي، من بينها القضايا الادارية التي تسهم مساهمة مباشرة في بناء كويت المستقبل، وتحدد مسارها سلباً او ايجاباً، وهي واحدة من التحديات التي واجهت الكويت منذ استقلالها حتى اليوم.
وفي هذا يقول: «... ان بناء كويت المستقبل هو التحدي الكبير الذي يجب على جيلنا ان ينهض لمواجهته، وينذر نفسه لتحقيقه، وعلينا من اجل ذلك ان نشرع في بناء الدولة الحديثة التي تأخذ بأسباب التقنية المتقدمة، والاساليب العصرية في مختلف مجالات الحياة. ولعل اول ما ينبغي البدء به تحديث الادارة العامة والجهاز الوظيفي للدولة، وتطبيق المفهوم الحقيقي للوظيفة العامة باعتبارها خدمة عامة، وان الموظف العام من رئيس الدولة الى اصغر موظف في اجهزتها، انما هو خادم لهذا الشعب الذي اعطاه ثقته، فيجب ان يصون هذه الثقة بالنزاهة والجدية ورعاية مصالح المواطنين دون اي تقصير او محاباة، وفي الوقت ذاته ينبغي النظر بعين الاعتبار لتحسين اوضاع العاملين في مختلف اجهزة الدولة من مدنيين وعسكريين..».
كما يمكن تعرف ذلك الفكر ـ ايضا ـ من خلال اهتماماته المتعددة والدائمة باحداث التغيير والتطوير المطلوبين، وحرصه الشديد على لقاء المسؤولين في القطاعات المختلفة المعنية بشؤون التخطيط بشكل مستمر، حيث تأتي خطط الاصلاح الاداري والتنمية الادارية على رأس هذه الاهتمامات، باعتبارها لصيقة ومكملة، ولا غنى عنها عند تنفيذ مشروعات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
فبقدر توافر العنصر البشري الفاعل وقدرته الخلاقة، وتحسين الاداء الاداري بالشكل الذي يجنبها اي اهدار او ضياع يكون النجاح. ومن هنا، كان الشباب دوماً ضمن دائرة اهتمامات الشيخ جابر الاحمد لكونه القوة البشرية الفاعلة التي ستقود حركة التنمية في الكويت نحو التطور المنشود.
وفي هذا الصدد، يقول بدر النصر الله: «... وفي سبيل بناء المجتمع المدني وبناء الانسان الكويتي، كان سموه يشترط على جميع الشركات النفطية الاجنبية العاملة في الكويت ان تضع بنداً في عقودها يتعلق بتدريب العناصر الكويتية الشابة لكي تتاح لهم الفرصة لمسايرة ركب التطور في مختلف النواحي...».
ويضيف حمزة عباس، فيقول: «... كان سموه حريصاً على تأهيل الكويتيين واعدادهم لان يتبوأوا المناصب القيادية والحساسة منذ توليه المسؤولية، فطلب ان استكمل دراستي في الخارج، واوفدت الى جامعة «اكسفورد» لمدة سنتين للدراسة والتخصص في المسائل المالية والنقدية، لاتولى بعد عودتي سكرتارية مجلس ادارة مجلس النقد الكويتي، ثم صرت نائباً فمحافظاً للبنك المركزي.
لقد اولى الشيخ جابر الاحمد الشباب الكويتي عناية خاصة، وكان يرى فيهم وجه كويت المستقبل، ولم يكن يتوانى لحظة عن حثهم على تلقي العلم اينما كان، وفي اي مجال تخصصي، لان الكويت في ذلك الحين كانت في بداية مسيرتها، وحركة التنمية والتطور كانت في حاجة الى سواعد وطنية في المجالات جميعها. وكم يكون سروره عظيماً عندما يشاهد كويتياً يتبوأ منصباً قيادياً، وبخاصة في الوظائف الاستراتيجية التي سيقوم عليها بناء كويت المستقبل.
ففي لقائه مع أوائل الخريجين من الجامعات العربية والامريكية والاوروبية كان دوما يشعرهم بأهمية دورهم في النهوض بالكويت، ويحملهم المسؤولية التاريخية والامانة الوطنية في دفع عجلة التقدم في بلدهم المعطاء، ودفع اخوتهم الشباب من الجنسين للتزوّد بسلاح العلم والمعرفة، وافساح المجال لهم ليتبوأوا المناصب القيادية في الدولة.
وفي هذا يقول عبدالعزيز البحر: «... لقد حرص سموه على سياسة التكويت منذ توليه المسؤولية، ودفع الكويتيين ـ وخاصة الخريجيين ـ منهم ليتبوأوا المراكز القيادية، وكان اوضح دليل على ذلك احتضانه لي وللمجموعة التي كانت تعمل معه، التي كانت من اوائل الخريجين الشباب الذين تولوا ارفع واهم المناصب بتشجيعه، كما تبنى سموه الجيل الذي أتى بعدنا واولاهم المراكز العليا في البلد...
هذه المواقف التي تحدث عنها شهود عيان عملوا مع الشيخ جابر الاحمد فترة من الزمان، التي تنم عن حبه الشديد للشباب الكويتي، ورؤية الكويت كلها في وجوههم... هذا الشعور الابوي الفياض لم يمنعه من ان يكون صلبا وحازما مع المقصرين من هؤلاء الشباب امام اي خلل في الوضع الاداري، يعطل مصالح الدولة ومصالح المواطنين، وينعكس سلبا على سمعة الكويت في الداخل والخارج.
ففي 26 اكتوبر عام 1993م كان للشيخ جابر الاحمد كلمته في هذا الصدد في افتتاح دور الانعقاد العادي الثاني للفصل التشريعي السابع لمجلس الامة الكويتي، تناول فيها بين امور عديدة الجانب الاداري مطالبا بالحزم ضد الفساد والمفسدين في هذا المرفق الحيوي، حين اشار: «... ولنضع في هذا السبيل نصب اعيننا، أمرين أساسييين، أولهما: إصلاح الوضع الإداري في مؤسساتنا العامة والخاصة، الذي تنصلح من خلاله أمور كثيرة، على ان يكون هذا العمل صادقا، ليس مجرد شعارات، فالله عز وجل، يقول: (... كبر مقتاً عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون)، والامر الثاني: الموقف الحازم والصلب ضد الفساد والمفسدين، بحيث لا نتهاون في عقاب مرتكبي الحوادث المخزية التي تنال من قيم مجتمعنا وأمنه واستقراره»...
وفي هذا السياق كان لتوجيهاته اثرها الفاعل في عملية التطور الاداري في الكويت، فقد اوصى ضمن ما اوصى به في هذا الاتجاه بإعداد دراسة شاملة حول عملية التطور الاداري في الكويت، تمهيدا لاعادة النظر في اوضاع الجهاز الوظيفي للدولة ككل، وبالفعل فقد تمت الدراسة التي تضمنها عدد من تقارير خبراء عالميين في الادارة، وترجمت الى الواقع العملي والممارسة الفعلية حين صدرت قرارات وسياسات ادارية مهمة اعادت التوازن للجهاز الوظيفي، وعلى رأسها اعادة النظر في قانون الخدمة المدنية، وتغطية ثغرات كثيرة في القانون المطبق.
كما جاء ضمن توصياته ضرورة السعي الى تطوير انظمة الخدمة العامة، واستحداث التشريعات لمقتضيات خطط التنمية الشاملة، ووضع القواعد اللازمة لتوفير الحوافز المادية والمعنوية المحققة للعدالة اللازمة بين الموظفين، مع السعي بشكل مستمر الى تقييم الهيكل الاداري للدولة، وتصحيح الاوضاع التنظيمية بالشكل الذي يخدم الخطة الشاملة في ضوء اتجاهاته العامة، مع العمل على رفع كفاءة الاداء بالنسبة للمؤسسات الحكومية والعاملين بها.
وفي كلمة له في افتتاح دور الانعقاد العادي الرابع للفصل التشريعي السابع لمجلس الامة الكويتي في 31 اكتوبر عام 1995م، اشار فيها الى ان بناء الانسان الكويتي هو الأهم، لانه الضمان الوحيد لوطن يبنيه ابناؤه بالكفاءة وتكثيف الخبرات ويضاعفون جهدهم حتى تقل حاجتهم للغير، ويغرسون بأيدهم ليجنوا وابناءهم ثمار ما زرعوا.
وهنا، يركز الشيخ جابر الاحمد على فلسفة الادارة الناجحة التي يمكن ان تسهم في خلق مجتمع فاعل منتج، فيقول: «... ولقد كنت حدثتكم عن قضيتين لهما اثر بالغ في سلامة بنية هذا الوطن والنهوض به، هما: اصلاح الوضع الاداري في مؤسساتنا العامة والخاصة، والموقف الحازم من الفساد والمفسدين، واذا كان علينا ان نواجه الخلل بالاصلاح، فعلينا ان نقابل الاتقان بالاحسان»...
ويضيف قائلا: «... لا يستوي في مقاييس الحق والعدل، رجل لا يوظف قدراته الا لخدمة ذاته، ورجل يضع الآخرين في اهتماماته... رجل كل همه ان يستأثر بالثمرة، ورجل يحرص وهو يجني الثمرة ان يغرس شجرة... رجل قضى ليله لاهيا او مسترخيا، ورجل بات منكبا على البحث والعمل... رجل لا يحسن سوى ترديد الشعارات، ورجل يعمل في صمت وانكار للذات... رجل سخر بيانه للتمويه والتجريح، ورجل جعل كلمته اداة للحكمة والموعظة الحسنة»...
ولعل اهم ما تضمنه فكره من خلال توجيهاته المتعددة، هو تبسيط اجراءات العمل في الجهاز الحكومي الى اقصى حد ممكن، وخاصة في الاجهزة ذات التعامل الجماهيري الكبير، وهي نظرة حديثة في علم الادارة، بعد ان تبين له من خلال الممارسات الادارية السابقة ان البيروقراطية وتعقيد الاجراءات والروتين الممل في اجراءات العمل سبب رئيسي للفساد في ذلك العمل، مع تعطيل عجلة التقدم ومصالح المواطنين.
وبشأن الزيارات التي يقوم بها ـ بين حين وآخر ـ للمواطنين في مناطق اقامتهم، واجراء حوارات معهم بشأن احتياجاتهم، وما يعانونه من نقص، وما يرونه ويقدمونه من افكار مستقبلية بشأن تقدم المجتمع... نقول: هذه الزيارات، هي في حد ذاتها تمثل كسرا للروتين والبيروقراطية الادارية، ورسالة الى القيادات الادارية بمستوياتها المختلفة بان تبسيط الاجراءات، وسياسة الباب المفتوح، وإلغاء الحواجز ـ مهما كان نوعها ـ بين الادارة والمستفيدين واصحاب الحاجة هي السياسة التي يجب الاخذ بها.
ففي العشر الاواخر من شهر رمضان عام 1409هـ، وعلى وجه التحديد في 3 مايو عام 1989م، تطرق الشيخ جابر الاحمد الى عدد من القضايا المحلية كان من بينها قضايا التنمية ودور الانسان الكويتي في تحمل هذه المسؤولية الوطنية، ودوره في تحرير العمل من قيد الحوار الورقي، والاعتماد الاكبر على اللقاء المباشر، وقراءة الحقائق في مواقع العمل.
وهو في هذا السياق، يقول: «... وان اقتصار القيادات على الاتصال بمستوى واحد في الاجهزة يؤدي الى العزلة وضعف القدرة على اكتشاف المواهب والكفاءات، واعطائها فرص التعبير عن ذاتها، وهذا يستدعي من القيادات ان تتصل باكثر من مستوى اداري، وان يسري الحوار بين المستويات دون عوائق»...
هذا، وان انشاء جهاز الرقابة الادارية في الدولة لكشف السلبيات القائمة ومواجهتها، وكذا اعداد ندوات للقيادات الادارية العليا في الدولة كانت ـ ايضا ـ واحدة من تلك التوجهات التي تضمنتها مفكرة الشيخ جابر الاحمد الى فريق الخبراء القائمين على الدراسة الشاملة السابقة الذكر، حيث أتاحت تلك الندوات الفرصة لاحداث تفاعل بين القيادات الادارية العاملة في مواقع عديدة في الدولة، وبخاصة في مواقع الانتاج، وبين الكفاءات العاملة في التنمية الادارية، كل ذلك من اجل ترشيد الحركة الادارية ودفع عجلة التنمية الاقتصادية والاصلاحية في الكويت.
«يتبع»[/frame]