[frame="1 80"]وانسجاما مع هذه الدعوة كانت كلمته امام مؤتمر القمة التاسع لحركة عدم الانحياز المنعقد في «بلغراد» في 5 سبتمبر عام 1989م دعا الشيخ جابر الاحمد الى اعادة النظر في الشروط القاسية التي يفرضها كل من صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي على البلدان النامية، وطرح مقترحات عملية سريعة لحل مشكلة الديون، وعلى وجه السرعة الممكنة، حتى لا تتفاقم محنة الدولة المدينة، وتأخذ المديونيات شكلا من اشكال الاستعمار الجديد.
وقد أظهرت السنوات الاخيرة عمق وتعقيد مشكلة المديونية الخارجية، وتأثيراتها المدمرة على الاقتصاد والتقدم الاجتماعي في الدول النامية بشكل خاص، مما جعل الوضع يتطلب حلا جذريا يتخطى الاساليب التقليدية المعروفة.
وبكل ما تحمل رسالته الانسانية من مصداقية وحب للخير، فقد ترجم الاقوال الى افعال عندما اعلن في كلمته امام الدورة الخامسة والاربعين للجمعية العامة للامم المتحدة بتاريخ 27 سبتمبر عام 1990م، في وقت كانت فيه الكويت تعاني وتقاسي مرارة الغزو والاحتلال: «ان الكويت من جانبها، وانسجاما مع اقتراحنا السابق، قررت الغاء الفوائد كافة على قروضها، كما ستبحث اصول القروض مع الدول الاشد فقرا، وذلك من اجل تخفيف عبء الديون التي تقع على كاهل تلك الدول».
لقد كانت دعوة الشيخ جابر الاحمد الانسانية، وجهوده الحثيثة لرفع الغمة عن الدول المعسرة، دعوة حث وبشير خير، فتحت طاقة نور وامل امام هذه الدول لرفع قساوة الحياة عن كاهل شعوبها التي تعيش وسط هذا العالم الجديد، والذي تحكمه حضارة القوة بقسوتها وجبروتها، لا قوة الحضارة بنبلها وتراحمها بين شعوب الارض.
وقد لقيت هذه الدعوة صدى كبيرا لدى الدول الدائنةوالدول المدينة على حد سواء، وان اتت بدرجات متفاوتة. وسوف نتناول ردود الفعل هذه في المبحث الثالث من هذا الفصل الفكر السياسي/ الاسرة الاسلامية»، حيث جاء مقترح الشيخ جابر الاحمد امام الدورة المشار اليها للجمعية العامة للامم المتحدة باسم الكويت ومنظمة المؤتمر الاسلامي بصفته رئيسا لها.
لقد اولى الشيخ جابر الاحمد الجابر الصباح جل اهتمامه لاصلاح مسيرة الاقتصاد الكويتي الذي وضع اسمه، نما وتطور بثاقب فكره وحسه الاقتصادي المشهود.
فقد جاء في كلمة وجهها الى شعبه بمناسبة العشرة الاواخر من شهر رمضان عام 1409هـ الموافق 3 مايو 1989م عندما قال: «اتحدث اليكم في هذا الشهر الفضيل ونحن على ابواب التسعينيات من هذا القرن، وتذكرون ايها الاخوة ان الكويت مرت في الثمانينيات باختبارات عسيرة اقتصادية وسياسية وامنية، يسر الله ـ سبحانه ـ اجتيازها بتوفيق وعون منه وبتعاون ابناء وطننا، وبارادة موحدة واجهت بها الكويت اكثر من محنة، وخرجت منها وقد ازدادت ارادتها قوة وهذا هو المنتظر من ابناء وطني، وقد عرفتهم الشدائد رجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه. وان هذه التجارب التي خضناها معا، ووفقنا الله ـ تعالى ـ فيها معاً، ونحن على كلمة سواء، زادني ثقة في المستقبل، وايماناً بقدرة ابناء الكويت على حمل الجديد من المسؤوليات في عالم سريع التقدم والتغير، يفرض على من يود الحياة فيه ان يدفع ضريبة المشاركة جهداً وعزماً وعطاء..».
ثم يتحدث عن النقلة النوعية التي دعا اليها، واهدافها، فيقول: «.... عندما قلت للاخوة المسؤولين، في حديث سابق معهم، اننا نعمل على نقلة نوعية خلال التسعينيات، كان هدفي هو النظرة الجديدة للسنوات المقبلة، وما تطلبه من عمل دؤوب ونكران ذات، وتحديث وتجديد في مختلف امورنا.
ان سنوات التسعينيات تحتاج الى جهد اكبر من سابقاتها، وان اتفقت معها فى الجذور الاصلية التي نستمد منها القدرة على حمل المسؤولية، وهذه طبيعة الحياة في سيرها وجمعها بين الاستمرار والتغير.
ان الله سبحانه وتعالى يقول: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)، وعلينا ان نعطي انفسنا فرصة لمراجعة الذات، فإما الاستمرار وتحمل المسؤولية في المرحلة المقبلة، واما الرغبة في الراحة وافساح المجال لآخرين، ولكل من هؤلاء وهؤلاء التقدير لما بذلوه، ولما يعزمون على بذله، ونسأل الله لنا جميعاً العون والاصلاح والتوفيق..».
ثم يتطرق الى حركة التجديد المنشود لنهضة الكويت فيذكر: «... ان ما نتطلع اليه يستهدف امرين: صالح الوطن، وصالح المواطن. وان التجديد في شموله وفاعليته هو المجال الرحب للتعبير عن حب الكويت وحقها في التحرك الواعي من حاضرها الى مستقبلها، ولكل من الحاضر والمستقبل حق واجب الاداء.
والتجديد واجب، لا ينأى عنه الا من يرضى بالتخلف في عالمنا المعاصر، ونحن نقبل عليه بنفوس مطمئنة دون توتر يؤدي الى اهدار حقوق من قدموا للوطن خيراً، ودون تسرع يدفع الى الصدارة قراراً غير ناضج، او الى صفوف التوجيه من يحتاجون الى المزيد من النضج والتمرس...».
وفي دائرة اهتمامه بالدور الوطني للانسان الكويتي في تنمية وتطوير الاقتصاد الوطني وتصحيح مساره، يقول الشيخ جابر الاحمد: «.... ان التنمية الحقة تتخذ من الانسان الكويتي محوراً، ومن الانتماء الى الكويت اساساً. ولهذا الانتماء ركائز تغرسها القدوة والاسرة منذ الصغر، وفي مقدمتها الايمان بالله تعالى، والتعود على تنفيذ اوامره، وممارسة مكارم الاخلاق من الصدق والتعاون، وحب العمل يدوياً وفكرياً حتى تصبح المبادرة الى بذل العون عادة وسعادة...».
وفي نطاق تطلعاته الى قيام الخبرات الكويتية بدورها الفاعل في التنمية الاقتصادية، يضيف قائلاً: «... هذا، وان كنا نتعاون مع الكفاءات العربية، وغير العربية التي تحتاج اليها التنمية، ومع تقديرنا لما بذلت وما تبذل من جهد مشكور، فاننا نريد ان تكون الخبرات الكويتية هي الاساس الذي تقوم عليه التنمية، ذلك لانها بحكم نشأتها وعمق احساسها الطبيعي بالانتماء، وسهولة اتصالها بكل مرافق الحياة الكويتية، هي الاقدر على تحديد المشكلات واقتراح الحلول والقيام بالتنفيذ، وهذا يلقي عليها مسؤولية وطنية وحتمية...».
ويتحدث بعد ذلك عن الامل في اصلاح مسار الاقتصاد الكويتي ومتانته، فيقول: «.... وان الكويت التي تخطت المشكلات السياسية المعقدة، والتي استهدفت كيانها، غير عاجزة، بعون من الله، وبتعاون ابنائها، عن تخطي مشكلاتها الاقتصادية..».
تأسيساً على هذه المسيرة الطويلة من البناء والانجاز، تتجه السياسة الاقتصادية الكويتية اليوم نحو توسيع المناطق الاقتصادية الحرة بوصفها آلية رئيسية ومكملة لسياسات تحرير الاقتصاد المحلي، والتوسع في ابرام الاتفاقيات الخارجية العديدة الثنائية او المتعددة الاطراف بمستوياتها المختلفة، بما في ذلك اتفاقيات التعاون الاقتصادي الخليجي والعربي والارووبي.
ولقد تم بالفعل اصدار قانون المناطق الحرة الجديد، والذي سمح بانشاء منطقة التجارة الحرة في ميناء الشويخ، وينتظر ان يلي ذلك انشاء مناطق حرة جديدة تتسع رقعتها تدريجياً لتعم الجانب الاعظم من الاقتصاد، وتلتئم مع الابعاد الاخرى للتحرير الاقتصادي، خاصة في مجالات الاستثمار والتجارة الخارجية.
وبذلك يمكن القول، ان استراتيجية التنمية الاقتصادية المتوسطة والطويلة المدى، تعتمد على تنفيذ برنامج شامل ومتعدد الابعاد للاصلاح الاقتصادي، يهدف الى اعادة هيكلة الاقتصاد لخلق آليات ومصادر جديدة للنمو المتوازن والمستمر، حيث انه لم يعد من الممكن الاعتماد على النمو المتباطىء وغير المستقر للدخل والايرادات النفطية. كما انه لم يعد من المتاح ايضاً قيام الانفاق العام بدور المحرك البديل للاقتصاد، مع تراجع دور قطاع النفط، مثلما حدث في حقبة الثمانينيات.
وكان هذا الانخفاض الكبير في حجم الناتج المحلي النفطي على امتداد عقد الثمانينات، قد اعطى اشارة اولية الى عدم امكان الاعتماد على النفط كمحرك رئيسي للنمو الاقتصادي، بل من الضروري العمل على تنويع القاعدة الاقتصادية الانتاجية ومصادر الدخل، وقد بدىء بالفعل اعادة توجيه العمل الاقتصادي، والسياسات الاقتصادية الكلية نحو الوصول الى هذا الهدف.
الا انه نتيجة للعدوان والاحتلال العراقي لدولة الكويت في 2 اغسطس عام 1990م، وما ادى اليه من توقف لمصدر الدخل الرئيسي للاقتصاد، وهو النفط فضلاً عما نجم عنه من تدمير للبنية الاقتصادية والطاقات الانتاجية المحلية، وتعطيل مسيرة الاصلاح الاقتصادي. فقد كان لزاماً علينا ان نعطي الجهود الاقتصادية المحلية ـ العامة والخاصة ـ الاولوية لاعادة بناء وتأهيل المرافق والقواعد الاقتصادية المحلية التي تم تدميرها، بالاضافة الى تركيز السياسات الاقتصادية الكلية في هذه المرحلة على اعادة التوازن الكلي للاقتصاد الكويتي، الذي اختل بدرجة كبيرة بسبب الكلفة المرتفعة المباشرة، وغير المباشرة للغزو والاحتلال، وما تلاهما من اعادة بناء.
ومن اجل هذا، فقد بدأت السياسة المالية بقيادة الشيخ جابر الاحمد في تغيير اتجاهاتها في الادارة الاقتصادية للميزانية، متبعة في ذلك نهجاً محافظاً، وذلك على عكس ما كان عليه الامر في الماضي. وقد تضمن هذا النهج الجديد مجموعة من السياسات تقوم على ترشيد الدعم السعري المباشر والضمني، وغير ذلك من المصروفات التحويلية الاخرى غير الالزامية. وبعبارة ثانية، العمل على ضغط الزيادة في المصروفات بقدر ما تسمح به الظروف، وخاصة المصروفات الالزامية، مع عدم الاخلال بأوجه الانفاق ذات الطبيعة التنموية الشديدة الصلة بالنمو الاقتصادي، كالانفاق الاستثماري الثابت والبشري.
وقد نجم عن هذا التوجه المتعلق بضغط المصروفات، اضافة الى زيادة اسعار النفط اكثر مما كان محدداً له في الميزانية، تحقيق بعض التقدم، حيث امكن تحديد مستوى اجمالي المصروفات بالاسعار الثابتة على مدى الثلاث سنوات الماضية 1994م ـ 1997م، مما ساعد في القضاء على عجز الموازنة في الفترة السابقة للانخفاض الاخير في اسعار النفط، بالاضافة الى زيادة نصيب المصروفات التنموية والاستثمارية في اجمالي المصروفات، وهذا يمثل ـ بلا شك ـ تكيفاً ضرورياً في هيكل المصروفات.
وعلى الكويت، وقد حباها الله بقيادة اقتصادية خيرة، وتملك من الموارد الاقتصادية ما يتيح لها التقدم على درب الاصلاح الاقتصادي بأسلوب هادىء مع السعي لتلافي اي معاناة اجتماعية، ان تعمل وفق سياسات الاصلاح على توزيع اية اعباء اقتصادية توزيعاً عادلاً في اطار التكامل والترابط الاجتماعي الذي عرفت به الكويت في ظل قيادة الشيخ جابر الاحمد الجابر الصباح.
«يتبع»[/frame]