[frame="1 80"]انشاء البنك المركزي وتنظيم الحركة المصرفية
استكمالا لمسيرة الاقتصاد الكويتي رأي الشيخ جابر الاحمد انه لا بد من اداة مركزية تتولى الامور النقدية في البلاد، وتشرف عليها وتحميها من المخاطر، نتيجة لتعقد الظروف الدولية، وما يواجهه العالم من ازمات اقتصادية طاحنة.
وقد تمحورت افكاره في هذا المجال حول مؤسسة مالية جديدة يمكن ان تلعب هذا الدور، ونعني بذلك قيام البنك المركزي، فقد انشىء بنك الكويت المركزي بموجب القانون رقم 32 لسنة 1968م، وبمقتضى هذا القانون تمت تصفية مجلس النقد الكويتي في نهاية مارس عام 1969م، وآلت موجوداته الى بنك الكويت المركزي الذي باشر مهامه اعتبارا من اول ابريل عام 1969م، وقد انضوت تحت مظلته آنذاك ـ نحو 7 بنوك تجارية، يتبعها 153 فرعا و4 بنوك متخصصة في التسليف والادخار والصناعة والتمويل على الطريقة الاسلامية، ويتبعها نحو 15 فرعا، بجانب 22 شركة استثمار خاضعة لرقابة البنك المركزي و39 شركة صرافة، ومجموعة من شركات التأمين.
وقد تحدث الشيخ جابر الاحمد عن الاهمية المالية والرقابية للبنك المركزي، حين اشار في كلمة له:
«.... ان المرحلة الجديدة التي دخلها الاقتصاد الكويتي، والمتميز باتساع وتشعب نشاطه، وبروزه على المستوى العالمي في وقت تتعقد فيه الظروف الاقتصادية الدولية، ويواجه العالم كثيرا من الازمات الاقتصادية، هذه المرحلة تضع على كاهل الادارة الاقتصادية قدرا كبيرا من المسؤولية، تتطلب المزيد من الجهد للحفاظ على زخم الاقتصاد، وتجنيبه ـ قدر الامكان ـ اي تأثيرات سلبية ناتجة عما تشهده الساحة العالمية ـ حاليا ـ من اضطرابات اقتصادية»...
مؤكدا على دور البنك المركزي وعلاقته بالمؤسسات المالية الاخرى، حين يقول: «... وللبنك المركزي دوررئيسي في هذا المجال، وخاصة بعد زيادة الاعتماد الاقتصادي على الجهاز المصرفي، وازدياد دور السياسة النقدية في تحقيق الاهداف الاقتصادية للدولة، ومن الامور المهمة في هذا الشأن ان تقوم العلاقة بين البنك المركزي والبنوك التجارية الوطنية على التفاهم والتشاور والتعاون، واننا على ثقة من ان للبنوك التجارية الاهمية القصوى للتعاون مع البنك المركزي على اساس من الثقة المتبادلة، والتعاون الصادق وليس لصالح مؤسسة، او افراد، او مجموعات، وانما للمصلحة العامة التي هي فوق كل اعتبار»...
حكمة القيادة الكويتية تجلت خصوصاً في السبعينات حينما توسعت في تنظيم الأوضاع الاستثمارية بُعد نظر الأمير أنقذ الكويت وأهلها في الغزو والتحرير والإعمار بمشروع احتياطي الاجيال
الحلقة الخامسة عشرة
تحدثنا في الحلقة السابقة عن انشاء البنك المركزي الكويتي، الذي جاء انشاؤه استكمالا لمسيرة الاقتصاد الكويتي.
ويعتبر بنك الكويت المركزي مؤسسة وطنية عامة ذات شخصية اعتبارية مستقلة، والمركز الرئيسي له في مدينة الكويت. وقد حددت المادة 15 من قانون البنك اغراضه، فيما يلي:
1 ـ ممارسة امتياز إصدار العملة لحساب الدولة.
2 ـ العمل على تأمين ثبات النقد الكويتي، وعلى حرية تحويله الى العملات الاجنبية الاخرى.
3 ـ العمل على توجيه سياسة الائتمان، بما يساعد على التقدم الاقتصادي والاجتماعي وزيادة الدخل القومي.
4 ـ مراقبة الجهاز المصرفي في دولة الكويت.
5 ـ القيام بوظيفة بنك الحكومة.
6 ـ تقديم المشورة المالية للحكومة.
كما نصت المادة 14 من قانون البنك على ان تكون له ميزانية خاصة تعد على النمط التجاري. ويعتبر تاجرا في علاقاته مع الغير، وتجري عمليات وتنظيم حساباته وفقا للقواعد التجارية المصرفية.
لقد قام البنك المركزي بالتدخل المباشر في السوق مقرضا ومقترضا للدينار، وذلك لتحقيق عدة اهداف، منها: المحافظة على هيكل سعر الفائدة المحلية في مستويات مقبولة، سواء كانت على الودائع المتبادلة فيما بين البنوك او على الاقراض والودائع المصرفية، بالاضافة الى دعم البنوك المحلية بالدينار والعملات الاجنبية وايضا للمحافظة على استقرار سعر صرف الدينار والحد من المضاربة عليه مقابل الدولار.
وقد أبدى الشيخ جابر الاحمد اعجابه وسروره بما تحققه المؤسسات المالية الكويتية من نجاحات، لكنه في الجانب الاخر يقف ناصحا ومرشدا في كيفية التعامل مع معطيات المستقبل، حين يشير: «وانه لمن دواعي سروري ان نرى مؤسساتنا المالية قد بلغت هذه المكانة المتقدمة في العمل المالي والمصرفي، واصبحت مثلا يحتذى في منطقتنا للكفاءة وحسن الادارة. واذا كنا نشيد بما حققته مؤسساتنا. فاننا مع ذلك نتوقع المزيد من التطوير واستخدام التقنية المتقدمة، والاخذ بأساليب الادارة الحديثة والتدريب وتهيئة الشباب المؤهل للقيام بدور اكبر في هذا المجال الحيوي من العمل الاقتصادي».
تنظيم سوق الاوراق المالية:
في عام 1970م صدر القانون رقم 32 بشأن تداول الاوراق المالية الخاصة بالشركات المساهمة كأول خطوة متكاملة على طريق تنظيم سوق الاوراق المالية بالكويت. منهيا بذلك القانون رقم 27 لسنة 1962م الخاص بتنظيم الاوراق المالية المؤسسة في الخارج. كما خوّل هذا القانون وزير التجارة والصناعة حق اصدار القرارات اللازمة لتنظيم تداول الاوراق المالية الخاصة بالشركات الكويتية، وذلك استنادا الى رأي اللجنة الاستشارية التي تشكلت برئاسة وزير التجارة والصناعة، وعضوية كل من وزارة المالية والبنك المركزي، اضافة الى خمسة مواطنين من ذوي الخبرة والاختصاص في الشؤون المالية.
ولما كانت مسألة التضخم المالي والنقدي في العالم من الامور التي كانت تقلق بال ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء الشيخ جابر الاحمد في ذلك الوقت، فقد بات متابعا جيدا لتلك الازمات الاقتصادية العالمية، في محاولة منه لتجنب تداعياتها السلبية على الاقتصاد الكويتي فقد اشار في احدى المناسبات بقوله: «في هذه الفترة الدقيقة التي يسودها اضطراب بالغ في مجال الاقتصاد العالمي، توجه الحكومة جل اهتمامها الى تجنب البلاد آثار التضخم النقدي وما يستتبعه من التقلبات والازمات. وتراقب عن كثب تطورات الاسواق المالية، وتتخذ ازاء الاحداث ما يناسبها من اجراءات تحقق استثمارات مأمونة ومجزية العائد، مع حماية اصول الاموال من مخاطر الاضطرابات الاقتصادية والهزات النقدية.
وعلى المستوى المحلي، تجنبا لهذه الهزات الاقتصادية حاول الشيخ جابر الاحمد طرح بعض الافكار والتدابير الناشطة والداعمة للاقتصاد الوطني، فيقول: «كما تتابع الحكومة مستوى النشاط في سوق الاوراق المالية المحلية وتطوراته، وتتابع الانشطة المصرفية من خلال البنك المركزي الذي يقوم بالتعاون مع المصارف المحلية باتخاذ ما يلزم من إجراءات لترشيد المهنة المصرفية، ومساندة هذه المصارف في مواجهة الظروف النقدية والمالية الحالية، واتاحة السبل الممكنة لتحقيق اقصى ما يمكن تحقيقه لخدمة الاقتصاد القومي».
محددا دور الحكومة في كل ما يسهم في دعم ومساندة الاقتصاد الوطني، حين يشير: «وتهتم الحكومة بالتدابير اللازمة لتدعيم الشركات المساهمة، ومساندتها بما يكفل لاقتصادنا الوطني في كل قطاعاته وانشطته استمرار الحيوية وحسن التطوير. وستعمل الحكومة على ان تسهم الصناعات الوطنية في توسيع قاعدة الاقتصاد الوطني وتنويع مصادر الدخل القومي، وعلى اقامة صناعات وطنية جديدة، وبخاصة تلك التي تتعدى الوقوف عند حد احتياجات الاستهلاك المحلي. وتمنح التسهيلات التي تجعل المواطنين اكثر اقبالا على مشاريع جديدة تعود بالفائدة عليهم وعلى البلاد».
وبتوصية من الشيخ جابر الاحمد لتنظيم العمل بسوق الاوراق المالية الكويتية، صدر القرار الوزاري رقم 61 لسنة 1976م الخاص بتنظيم سوق الاوراق المالية الخاصة بالشركات المساهمة الكويتية، والذي يعتبر في الوقت ذاته اللائحة المنظمة للبورصة الكويتية التي تم افتتاحها في 2 ابريل عام 1977م.
واذا كان قيام بورصة الاوراق المالية الكويتية من أجل الاستفادة من الوظيفة التقليدية للبورصات، والمتمثلة في توفير الموارد التمويلية لمختلف المشروعات لدفع عجلة التنمية الاقتصادية باعتبارها القناة التي تمر من خلالها المدخرات القومية الى المشروعات الاقتصادية، فان هناك من الدوافع ما جعل قيام هذه البورصة امرا ملحا، وذلك لما ينطوي عليه انشاؤها من تصحيح لاوضاع السوق المالية الكويتية التي عانت من غياب الاجهزة التنظيمية.
احتياطي الاجيال القادمة:
منذ ان تولى الشيخ جابر الاحمد رئاسة دائرة المالية، وقضية لاجيال القادمة واحدة من الهواجس التي كانت تقلق باله، ويحاول جاهدا ان يجد لها مخرجا حكيما يضمن حياة سعيدة للاجيال القادمة من ابناء الكويت، حتى لا ينعم بثروات الكويت جيل من أجيالها، وتحرم اجيال قادمة من ذلك الخير الذي أنعم به الله عليها. ومن هنا اهتدى فكره الى ضرورة انشاء صندوق للاجيال القادمة يدخر فيه ما يمكن ادخاره من عائدات الدولة واستثماراتها. وبالفعل تحققت الرؤية وتحققت الفكرة التي سعى اليها بصدور مرسوم اميري في 28 نوفمبر 1976م بالقانون رقم 106 لسنة 1976م في شأن احتياط الاجيال القادمة.
وهنا يوضح خالد ابو السعود الفرق بين الاحتياطي العام، واحتياطي الاجيال القادمة، فيقول: «ان الاحتياطي العام هو الفائض من ايرادات الميزانية والمصروفات الفعلية. ولقد تعرض الاحتياطي الى الضعف امام ضغط المصروفات والسحب منه باستمرار بقانون وبغير قانون. وهذا ما دعا سمو الشيخ جابر الاحمد بثاقب فكره واستشرافه للمستقبل الى طرح فكرة انشاء احتياطي الاجيال القادمة ابان توليه رئاسة مجلس الوزراء، وعلى وجه التحديد عام 1974م، وذلك بتخصيص نسبة 10% من ايرادات النفط تغذي به الدولة احتياطي الاجيال، على ان لا يمس هذا الاحتياطي مهما كانت الاسباب، الا في امور اضطرارية قصوى وبقانون، وكان هذا عملا تنفيذيا بحتا لكيفية الحفاظ على احتياطي الاجيال، وعليه، فقد قسم الاحتياطي الى احتياطي عام واحتياطي الاجيال القادمة».
وقد نص قانون احتياطي الاجيال على فتح حساب خاص لانشاء احتياطي بديل للثروة النفطية مكون من 50% من رصيد الاحتياطي العام للدولة في سنة الاساس، ويموّل سنويا عن طريق استقطاع 10% من الايرادات العامة للدولة اعتبارا من السنة المالية 76 ـ 1977م على ان يعاد استثمار عوائد تلك الاموال في الحساب نفسه، وتقوم الهيئة العامة للاستثمار نيابة عن الدولة باستثماره في شتى المناشط الاقتصادية الداخلية والخارجية.
هذا. وقد نظمت عملية استثمار هذه الاموال في المحافظ الاستثمارية العالمية من الاسهم والسندات والودائع والمشروعات الاقتصادية المختلفة، باشراف الخبراء الاقتصاديين سواء أكان ذلك في داخل الدولة ام من خلال المؤسسات الاستثمارية العالمية التي عهد اليها باستثمار اصول احتياطي الاجيال القادمة، حتى بلغ ريع استثمارها مدخول النفط.
هذا الاحتياطي مكّن الحكومة الكويتية خلال فترة العدوان والاحتلال العراقي من تغطية احتياجات البلاد من الاموال في عملية اعادة البناء والتعمير، وبما يلزمها لممارسة نشاطها السياسي الوطني في الدفاع عن قضية الكويت في جميع المحافل العربية والاقليمية والدولية، كما قام بتمويل احتياجاتها في مجال حشد الطاقات العسكرية اللازمة لتحرير الوطن، بالاضافة الى توفير المصادر المالية اللازمة للصرف على اعاشة الكويتيين، سواء أكان ذلك في داخل الكويت المحتلة ام خارجها.
يحدثنا عبدالعزيز البحر عن استشراف الشيخ جابر الاحمد لمستقبل احتياطي الاجيال القادمة، ودوره الكبير في عودة الروح الى دولة الكويت بعد ان دمرها الغزو والاحتلال العراقي فيقول: «لقد كان من اهم الانجازات فكرة سموه في انشاء مشروع احتياطي الاجيال القادمة، وهو في نظري الجوهرة الناصعة في سجل انجازات واعمال صاحب السمو، عندما تبنى فكرة اقتطاع 10% من الدخل ووضعه في احتياطي لا يمس للأجيال القادمة، وكما نعرف ان هذا الاحتياطي انقذ الكويت عندما استخدم لتحريرها، وانقذ اهل الكويت عندما تم الصرف منه عليهم، وهم مشردون في الخارج، وافاد الكويت عند اعادة اعمارها، ولولاه ما تمكنا من اعادة اعمار الكويت، وكان ذلك كله نتيجة لبعد نظر سموه واستشرافه لمستقبل البلاد».
كما ساهمت اموال احتياطي الاجيال من العملات الاجنبية في دعم ومساندة وثبات عملة الكويت «الدينار الكويتي» الذي هو احد رموز استمرارية قيام الدولة في الحفاظ على قيمته وهيبته مقابل العملات الاجنبية. وبالاخص خلال الفترة التي اعقبت التحرير مباشرة، حيث ظل الدينار الكويتي بوصفه رمزاً للدولة محتفظاً بقوته وسلامته.
ولم يتوقف احتياطي الاجيال القادمة عند هذا الحد فقط، فبعد التحرير وبسبب احتراق آبار النفط وتوقف الانتاج النفطي وانقطاع الايرادات النفطية لعدة شهور، اعتمدت الدولة على هذا الاحتياطي في الصرف على الميزانية العامة للدولة، وتحمل الجزء الاكبر منها الى ان تمت اعادة الصناعة النفطية الكويتية الى مستوياتها التشغيلية المعتادة.
وحتى لحظة اعداد هذا الكتاب، وبعد عودة الحياة بشكلها الطبيعي في الكويت، بكل ما تحمله الكلمة من معنى، الى ما كانت عليه قبل الغزو والاحتلال، فإن الظروف المستجدة والاوضاع المتغيرة، وبالاخص على الساحة الاقتصادية، احدثت ظهور عجز في الميزانية العامة للدولة. وقد كان ـ ولا يزال ـ احيتاطي الاجيال القادمة المصدر الاساسي الذي تعتمد عليه الدولة في سد مثل هذه الثغرات، وتغطية اي عجز مؤقت لحين تصحيح الهيكل الاقتصادي للدولة.
«يتبع»[/frame]