وقد جاء في وثيقة بريطانية عند اختيار الشيخ جابر الاحمد ولياً للعهد تعليق على سيرته الذاتية: «... ان الشيخ جابر الاحمد رجل طموح قادر، ومسلم تقي، وان له صيتاً بحسن الادارة واتخاذ القرار...».
واذا ما تجاوزنا هذه الوقائع والشواهد التي لامست عن قرب جانبا من الصفات والسمات الشخصية للشيخ جابر الاحمد، لنقف عند المراحل الدراسية التي قطعها، فإننا نجد انه في ذلك التاريخ البعيد نسبيا، لم تكن مراحل التعليم المتقدمة مكتملة في الكويت كمعظم الدول العربية الاخرى، الامر الذي جعل والده رحمه الله وطيب ثراه، يتيح له الفرصة لأن يتلقى تعليماً خاصا على أيدي عدد من الاساتذة المتخصصين في مجالات علوم الدين واللغة العربية واللغة الانجليزية.
ومما زاده إلماماً ومعرفة بما يدور في هذا العالم اتاحة والده له ثانية الفرصة لزيارة العديد من بلدان العالم من اجل الاحتكاك بثقافتها وحضاراتها، وخاصة تلك الدول التي بدأت تخطو خطوات واسعة وسريعة في مضمار التقدم والنهضة، حيث رأى عن كثب أحوال تلك المجتمعات وحياة شعوبها الحضارية وما بلغته من تقدم في شتى ميادين الحياة، والأخذ بأسباب التقنية الجديدة التي بدأت تشارك الانسان حياته، وهذا نلمسه اليوم في كل لحظة من لحظات تعاملنا مع أوجه هذه الحياة. وقد كانت هذه الرحلات ـ كما قال احد ساسة الكويت المخضرمين ـ بمثابة «المدرسة الجامعة التي اسهمت في تكوين الشخصية الطموحة للشيخ جابر الاحمد».
خلاصة القول، ان الشيخ جابر الاحمد قبل ان يصبح أميرا وحاكماً هو انسان كويتي، يجسد تراث الاجداد في تواضعه، ويحمل في توادّه وتراحمه مع الناس أصالتهم.
كان والده المغفور له الشيخ احمد الجابر الصباح يتفرّس فيه منذ طفولته ملامح خاصة من النباهة والجدّية وسرعة الخاطر، فعوّده على الانضباط السلوكي، سواء أكان ذلك في البيت ام في مجالس الاسرة، ام في المدرسة، ام في المجتمع، وكان لاصطحابه له في رحلاته الخاصة وسفراته الرسمية الى الخارج وهو صغير دور كبير في اكتسابه المزيد من الخبرة في الحياة ومعرفة الناس، والاطلاع على اساليب الحكّام. وكان يردد على مسامعه دائما: «عليك يا بني بالحلم فهو أساس الحكم، وإياك ان تفقده فتفقد كل شيء».
وعندما نتحدث عن الطبيعة الشخصية لسمو الشيخ جابر الاحمد، فاننا نتحدث عن تواضع حقيقي لا متخيّل، فزهد هذا الرجل في المظاهر والمبالغات يعرفه من عرفوا انجازاته. فهناك العديد من المؤشرات التي تؤكد هذه الحقيقة، نستقي منها الواقعتين الآتيتين: اولاهما: إنه رفض بعد توليه حكم الامارة ان توضع صورته على ورق النقد المتداول بعدما كادت تصبح قاعدة عامة، اما الثانية: فقد تمثّلت في عزوفه عن لقب «المعظم» واصراره العفوي على عدم تمجيد شخصه.
لقد تجمّعت فيه صفات عقلانية وخلقية عدة، تجسّدت في سلوك مثالي، وقدرة على الحوار والاستعدادلتقبل الرأي الآخر اذا اقتنع بالجدل الموضوعي.
ومن المعروف عن الشيخ جابر الاحمد انه متواضع دون تصنع، بسيط السلوك، ودبلوماسي لبق، واداري حازم يضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، صادق في تعامله، يقول كلمة الحق على الدوام، يجيد فن الاستماع والاصغاء، فيستمع الى اكثر التفاصيل دقة. واذا ما جاء الحديث في موضوع له اهمية خاصة امسك قلمه ودوّن ملاحظاته، واذا تحدث فانه لا يتحدث الا بقدر، لكنه عندما يتحدث تجده بصيب لب الموضوع.
ان صفة التواضع الجم فكرة أساسية في سلوك الشيخ جابر الاحمد منذ ان كان حاكما امنياً لمدينة الاحمدي ومناطق النفط... وهنا ايضا واقعتان تؤكدان هذه الحقيقة: الواقعة الاولى تتمحور حول لقائه بطلبة الكويت أثناء زيارته للولايات المتحدة الامريكية، فقد وقف الطلاب لحظتها هاتفين بالهتاف التقليدي المعروف بالروح بالدم نفديك يا جابر... فقاطعهم وهو قليل التدخل في مثل هذه الاحوال، وطلب منهم ألا يهتفوا بهذا النوع من الهتافات.
اما الواقعة الأخرى، فقد تمثلت في الفكرة التي طرحها بعض المثقفين الكويتيين حول انشاء جائزة كبرى باسم جائزة جابر الاحمد تمنح للمتميزين والمبدعين من المثقفين الذين ساهموا بفكرهم وعطائهم، وكانت لهم مواقف جيدة ومتميزة من العدوان والاحتلال العراقي لدولة الكويت. وقد قبل الفكرة ورحب بها بشرط عدم ذكر اسمه فيها، وبادر بتسميتها باسم «جائزة الكويت».
ان الشيخ جابر الاحمد ليس رجل دولة فحسب، انما هو رجل أمة، يضرب به المثل والقدوة في التفاني والعمل والعطاء دون حدود، لذلك تجده يضيف دوماً الى الموقع الذي يتولى ادارته كل ما هو جديد في عالم الرقي والتقدم. كما يحرص أشد الحرص على تدعيم وتقوية صلاته مع افراد شعبه داخل وخارج نطاق العمل، فهو يتسم بوداعة قلبه الكبير الذي يتسع لحمل هموم ومشاكل وآمال وطموحات وتطلعات وطنه وشعبه.
شهادات بعض من عملوا مع سمو الأمير في بداياته الأولى بالدوائر الحكومية مثال للأخلاق ومريح في التعامل ويحب الاطلاع على تفاصيل العمل ولا يأخذ إجازات خاصة
الحلقة الثالثة
البدايات الاولى للعمل في الادارة الحكومية: في يناير عام 1949م بدأ الشيخ جابر الاحمد حياته العملية واتصاله المباشر بامور الحكم والامارة السياسية بتعيينه رئيسا للامن العام، ونائبا للامير في مدينة الاحمدي ومناطق النفط... هذه المدينة التي جسدت وشهدت انتقال المجتمع الكويتي من مرحلة قاسية، عانى فيها الشعب الكويتي قساوة الحياة، وشظف العيش، وركوب المخاطر من اجل استمرار الحياة، الى مرحلة اتسمت بالرفاه الاجتماعي والتعامل مع مقتنيات واسباب الحضارة الحديثة، هذه المرحلة زوّدت الشيخ جابر الاحمد بخبرة ادارية واسعة وعريضة، ودراية بامور فنية تتعلق بشؤون النفط واقتصادياته وآثاره وانعكاساته على المجتمع، مما جعل ذلك دوما في دائرة اهتمامه، لكونه كان على ثقة بأن هذه المادة الاستراتيجية هي حياة الكويت وشريان مستقبلها. فاجتاز هذه المسؤولية الكبيرة بنجاح باهر، وكان ذلك تأهيلا علميا واداريا وفنيا له ليتولى شؤون النفط والمال في مرحلة لاحقة، ويحقق فيها نجاحا عظيما.
فقد تناولت جريدة «الشرق» اللبنانية شخصية الشيخ جابر الاحمد في مقال، جاء فيه: «... ان الشيخ جابر الاحمد الجابر الصباح الذي اشتهر عنه انه قليل الكلام، كثير الاعمال والافعال، يدرس ويفكر قبل القدوم على اية خطوة تنفيذية، وهو اختصاصي بشؤون النفط، وله شأن كبير بالنسبة لشركات النفط العاملة في الكويت، وان لكل كلمة يقولها وزنها الكبير وابعادها المستقبلية التي لا يمكن اغفالها او اهمالها»...
وفي فبراير عام 1959م حين تولى الشيخ جابر الاحمد منصب رئيس دائرة المالية واملاك الحكومة، وتمثيل امير البلاد لدى شركات النفط العاملة في الكويت لم يكن الا وظيفة جاءت منسجمة مع تفكيره والتجارب والخبرات التي اكتسبها حين تولى حاكميه مدينة الاحمدي مدينة الاحمدي ومناطق النفط.
وبتشكيل اول وزارة عقب الاستقلال في يناير عام 1962م، بموجب المرسوم الاميري رقم 3 لسنة 1962م، تم تغيير اسماء مؤسسات الدولة من كيانات ادارية صغيرة «دوائر» الى وزارات كان من بينها وزارة للمالية والاقتصاد تولى الشيخ جابر الاحمد مهامها بصفته اول وزير لها ليستمر على رأس هذا الجهاز ما بين عام 1959 ـ 1965م، وقد تغيرت خلالها تسمية الوزارة الى وزارة المالية والصناعة في يناير عام 1963م، ليصبح بعدها وزيرا لوزارتي المالية والصناعة، ووزارة التجارة في يناير عام 1965م.
وقد جاءت هذه المهمة ايضا امتدادا لاهتماماته المبكرة في الامور والمسائل الاقتصادية للدولة، وتميزه بعقلية اقتصادية متفتحة قادرة على تحمل اعباء هذه الوزارة، وهنا تجدر الاشارة الى انه بالاضافة الى عمله وزيرا للمالية والصناعة تولى ايضا في مناسبات معينة مهام نائب رئيس مجلس الوزراء وكذا كان نائبا للامير في مناسبات اخرى.
وقد تمكن الشيخ جابر الاحمد خلال الفترة المشار اليها، اي ما بين، عامي 1959 ـ 1965م ومن انجاز جملة من المشروعات الحيوية والمهمة بينها:
1 ـ انشاء بنك الائتمان لتيسير الائتمان العقاري والصناعي والزراعي، لزيادة دخل المواطنين والدولة من حصيلة قيام الافراد بانشاء صناعات ومشروعات زراعية.
2 ـ اصدار النقد الكويتي لاستخدامه في التداول بدلا من النقد الهندي بغية عدم الارتباط بعملة دولة اخرى، مما قد يؤثر على كيان الدولة.
3 ـ انشاء مؤسسة عامة، هي مجلس النقد الكويتي بغية الاشراف على اصدار اوراق النقد والمسكوكات في الكويت.
4 ـ اعداد مشروع النظام الخاص بالصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية، ليكون دعامة من دعائم التنمية الاقتصادية في البلاد العربية.
وحول هذه المرحلة يحدثنا حمزة عباس الذي عمل بدائرة المالية في نهاية عام 1958م، اي قبل ان يتولى الشيخ جابر الاحمد مهام رئاسة الدائرة بشهور قليلة، فيقول: «... كان الشيخ جابر الاحمد مريحا في تعامله مع الآخرين بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان سامية. وكان مثالا للتواضع، قليل الكلام كثير الافعال، محبا للعمل، يعمل صباحا ومساء ولا يكتفي بالعمل المرتبط بالدوام الرسمي. وكانت ابوابه مفتوحة لنا جميعا في اي وقت نشاء، حتى في بيته في قصر دسمان. كان دائم الاتصال بنا لمتابعة ورعاية المشروعات، ولم يكن الامر مقصورا علينا، بل كانت ابوابه مفتوحة ايضا للخبراء والمستشارين الذين يعرفهم مثل روكفلر وغيره، ويقابلهم في اي وقت لمناقشة الامور الاقتصادية معهم، مما يحرص دوما على توفير الجو العائلي الحميم لهم، والخالي من التكلف والتقيد بالرسميات، مما جعلهم يؤدون عملهم باخلاص وتفان»...
ويمضي حمزة عباس الذي عمل مع الشيخ جابر الاحمد منذ اليوم الاول لتوليه مهام رئاسة دائرة المالية في حديثه، فيؤكد: «... ان الشيخ جابر الاحمد كان رجل دولة من الطراز الاول، ينظر الى مشروع يعرض عليه من جميع الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، واضعا نصب عينيه مصلحة الكويت والكويتيين، ويدير الازمات الاقتصادية بروية واداراك وخبرة عالية، ولديه طاقة كبيرة لتحمّل مواصلة العمل، ولم يكن يحب الرسميات، وتتسم طباعه بالبساطة مع الجدية في العمل والصراحة في الحق، وكانت علاقته مع موظفيه سهلة ومبسطة، ويشجعهم دوما على طرح افكارهمبحرية، لقد كان ديمقراطي التوجه والقرار، وكانت قراراته تأتي بعد الدراسة والمشورة حاسمة قاطعة، وكانت باكورة المشروعات الوطنية الضخمة من نتاج فكره. وقد دلّ نجاحها على صدق استشرافه للمستقبل»...
وفي هذا السياق يضيف محدثنا حمزة عباس، فيقول: «... تدل افعال الشيخ جابر الاحمد وقراراته كلها على مدى اهتمامه بمصالح الشعب، فكان ينظر للامور ـ كما قلت ـ من زوايا عدة: اقتصادية وسياسية واجتماعية، فعندما يتخذ اي قرار او يعالج ازمة كان يحرص دائما على ان لا تمس النتائج مقدرات الشعب، وان لا يتأثر دخلهم او يتضرروا بالوضع...
اما عبد العزيز البحر الذي عمل مع الشيخ جابر الاحمد عام 1959م مديرا عاما لادارة الاسكان، فانه يحدثنا عن تلك الفترة من الزمن، فيقول:«... عاشرناه بشخصه سواء بالعمل او في اسفاره وتنقلاته، فكان مثالا للاخلاق الحميدة والتواضع الجم، ولمسنا فيه حسن معاملته وسماحته لمرؤوسيه، ينأى في تعامله معهم عن الرسميات ويشعرهم بصداقته، مما كان يدفعنا جميعا للتفاني والاخلاص في العمل»....
ويضيف محدثنا البحر، مؤكدا: «... لقد كان الشيخ جابر الاحمد من اولئك القادة الذين لا ينفردون بالقرار، وكثيرا ما كان يستشير، كما كان مستمعا جيدا ومترويا قبل ان يصدر قراراته المدروسة، وكثيرا ما كان يطرح الموضوع ويطلب منا دراسته، ونرجع الى سموه بوجهة نظرنا، وقد تكون مخالفة احيانا في الرأي، فكان يتقبل طرحنا بكل رحابة صدر، ولم نجد منه اصرارا على وجهة نظره، وعند التنفيذ كنا نجد وجهة نظره قد اخذت في الاعتبار»....
وحول اسلوبه في العمل، يقول فيصل المزيدي: «... كان له اسلوبه الخاص في الادارة، فهو محب للاطلاع على أدق التفصيلات، ولو اقتضى الامر الاستماع الى موظف يثق به، حتى لو لزم الامر تخطي رئيسه. فغايته دائما الوصول الى الحقيقة وبكل الوسائل المتاحة...».
ويشارك محدثنا من سبقه الحديث في الرأي، حين يقول: «... لقد كان محبا للعمل، وساعات العمل لديه ليس لها حدود، فكانت له قوة تحمّل على العمل يصعب مجاراتها، فعندما كان وزيرا للمالية كان يعمل زهاء ثماني عشرة ساعة في اليوم بالوزارة، وكان يواصل عمله ومقابلاته في كثير من الاحيان في منزله بقصر دسمان، ولم أتذكر انه اخذ اجازة خاصة، فقد كانت متعته في عمله»...
وفيما يتعلق باهتمامه بالشباب الكويتي، يضيف محدثنا قائلا: «... وبالنسبة لاهتمامه وتشجيعه للكويتيين، فقد كانت لديه ثقة كبيرة في الشباب وخاصة الخريجين منهم. وكان يفعل كل ما بوسعه لتحقيق طموحاتهم وآمالهم، واكبر دليل على ذلك انه احتضننا ونحن خريجون جدد، وأولانا ارفع المناصب، فلم يأت بنا كخبراء وانما جعل منا خبراء بوضعنا في هذه المراكز، وافادتنا من الخبراء الذين كانوا متواجدين في ذلك الزمن، واحتكاكنا بالامور المحلية والدولية، واذكر من هؤلاء الشباب حمزة عباس، عبداللطيف البحر، عبدالعزيز البحر، فيصل الفليج، جاسم خالد المرزوق، حمد يوسف العيسى، وفجحان هلال المطيري وغيرهم.
أما زميل الدراسة في المدرسة الشرقية بدر النصر الله، فانه ينقل لنا شيئا من انطباعاته عن الشيخ جابر الاحمد الذي بدأ العمل معه عام 1960م سكرتيرا لمكتبه، حين يشير.. ان انطباعي عن سموه اثناء عملي معه انه كان شعلة من النشاط سريع البديهة، ذا خبرة عالية في مجالات المناصب التي تقلدها عن وعي وبصيرة وكان كثيرا ما يحرر لنفسه البرقيات والمذكرات دون الاعتماد على الغير. لقد تعلمنا من توجيهاته الشيء الكثير. وكان رحب الصدر، يحترم رأي الاخرين ويتقبل اي فكرة تأتيه من اهل ورجالات الكويت، ويعكف على دراستها.
ويمضي محدثنا النصرالله.. كان يتمنى منذ الستينات ان يمتد العمران في الكويت الى اقصاه، وكان من امنياته ان يرى الكويتيين وقد امتد بهم الرحيل الى الجنوب لاعماره، وكثيرا ما كان يذهب الى منطقة الخيران الخالية في ذلك الوقت وهذا ـ بلا شك ـ مثال على استشرافه لمستقبل الكويت واعمارها وكان يعمل بنفسه على تحقيق هذا التطلع فترجمه من الامنية الى الواقع.
لم يقف محدثنا النصرالله عند هذه الكلمات والعبارات من ذكرياته بل اضاف قائلا: كما فتح الشيخ جابر الاحمد باب التعيينات ـ وهو وزيرا للمالية ـ امام الشباب الكويتي القادم من جامعات العالم ليسهم في بناء دولة المؤسسات على اساس من العلم. كما اغدق على بناء المدارس ودور العلم والتوسع في التعليم العام والجامعي. كما اعطى اولوية في اهتماماته لمحو الامية ادراكا منه لاهمية ذلك في وعي الشعوب وتقدم الامم.
ويمضي محدثنا مؤكدا على جانب مهم في حياة الشيخ جابر الاحمد العملية حين يقول: كان يأتي الى عمله مبكرا وبالتزام شديد بوقت الدوام الرسمي. وكان حازما شديد الملاحظة، سريع البديهة وله حضور، وان من طبعه العفو، وكان عميق التفكير والتدبير في كل رأي او فكرة تطرح عليه يدرسها من جميع الجوانب ثم يعطي توجيهاته وقراراته بسرعة التنفيذ ودون تباطؤ.
وفي هذا السياق يمضي النصر الله في تأكيده. ليقول: «عندما كان رئيسا للمالية، وفي نفس الوقت مسؤولا عن شؤون النفط في الدولة كان اسلوبه التنظيمي في العمل هو تخصيص يوم في الاسبوع يوم الاثنين للتفرغ لشؤون النفط وكنا نذهب من الكويت الى مدينة الاحمدي حيث كان له مكتب خاص هناك لمتابعة شؤون النفط، وفي بقية الايام كان يستقبل المسؤولين عن شركات النفط في مكتبه بمدينة الكويت العاصمة ويخصص لهم وقتا كافيا لمناقشة الامور النفطية معهم واتخاذ القرارات في شأنها.
وها هو عبداللطيف البحر الذي عمل مع الشيخ جابر الاحمد منذ شهر ديسمبر عام 1966م يسرد لنا ذكرياته عن هذه الفترة فيقول «انه رجل دولة بكل ما يحمله هذا التعبير من معنى معروف عنه دقته في العمل والتزامه الشديد وعدم التسرع في الامور، وكل ما يعرض عليه من افكار ومشاريع يخضعها للدراسة والتقييم والاستشارة الفنية كما انه لماح سريع البديهة ولديه قوة استيعاب فائقة وله حدس وشفافية وله قدرة عجيبة على تلخيص الموضوعات وعرضها امام المختصين، وله ايضا حس اقتصادي فطري وخبرة اقتصادية هائلة. وكان جلده وصبره وقدرته على استمرارية العمل بشكل مذهل يضعه دوما امام شعار: لا تؤجل عمل اليوم الى الغد».
ويمضي البحر فيشير الى جانب آخر من ممارساته في العمل فيقول: «كثيرا ما يكتب بنفسه الخطابات ويدفع بها الى المستشارين ثم يراجعها بنفسه وكثيرا ما يدخل عليها بعض التصويبات في صيغتها النهائية، وكان ينظر دائما الى المشروعات المقدمة له من ثلاثة ابعاد: البعد الاقتصادي والبعد التنموي والبعد الاجتماعي.
لهذه الاسباب مجتمعة وغيرها، جاءت الفترة الواقعة بين عام 1949م وعام 1978 م فترة مزدحمة وثرية بالانجازات تمكن خلالها الشيخ جابر الاحمد من ان يضع عصارة فكره في اقامة البنية الاساسية للدولة وهياكلها التنظيمية بمساعدة عدد من شباب الكويت ومجموعة من الخبراء العالميين وبخاصة في المجال الاقتصادي والعمراني. وان ينتقل بسرعة كبيرة من مجال التخطيط والبرمجة الى مجال التطبيق والتنفيذ رغم العوائق والتحديات التي كان يواجهها.
وكانت مؤازرة المغفور له الشيخ عبدالله السالم الصباح امير دولة الكويت الاسبق والمغفور له الشيخ صباح السالم الصباح امير دولة الكويت السابق، ودعمهما ومساندتهما المطلقة لمشروعاته وتطلعاته المستقبلية قد جعلته في وضع مكنه من الانتقال بالكويت من امارة بسيطة تحكمها العادات والتقاليد والاعراف الى مجتمع حضاري ودولة عصرية، يحكمها دستور وقوانين منظمة لجميع جوانب شؤون الحياة ومسيرة المجتمع يتراجع من امامها نفوذ مواقع القوة، والرموز المؤثرة في تسيير المجتمع، لتحل مكانها تلك التشريعات والمؤسسات القائمة على تنفيذها.
فالشيخ جابر الاحمد لم يكن مهندس الاقتصاد الكويتي فحسب بل كان واضع الاسس الاولى للحركة العمرانية، ورافع شعار مجتمع الرفاه الذي يعيشه اليوم كل كويتي بدءا بثمرة النهج الاقتصادي الذي رسمه، والذي جاء مزيجا ووسطا بين الانظمة الاقتصادية العالمية المتباينة والذي تشهد له المؤسسات المالية الدولية «البنك الدولي ـ صندوق النقد الدولي» بالكفاءة وحسن المواجهة، والاداء الجيد امام الازمات الاقتصادية التي تواجهها الكويت بين حين وآخر بسبب اوضاع اقتصادية داخلية، او مؤثرات اقتصادية وسياسية خارجية. وانتهاء بما ترتب على ثمرة هذا النهج الاقتصادي من حركة عمرانية شاملة، تضمنها المخطط الهيكلي للدولة الذي اشرف شخصيا على جميع مراحل اعداده منذ ان كان رئيسا لمجلس التخطيط عام 1966م ومتابعته له حتى يومنا هذا.
هذا الى جانب صياغة حياة مرفهة للمواطنين وضمان حياة كريمة للأسرة الكويتية المحدودة الدخل وذوي الاحتياجات الخاصة هذه النظرة التخطيطية ذات البعد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لم تقف عند حاضر الكويت بل تخطتها الى المستقبل البعيد، حيث سعى بكل جهده وفكره الى ضمان حياة كريمة للاجيال القادمة والمحافظة على ثروات الكويت وايجاد موضع قدم لاقتصاد الكويت ومركزها المالي في الاسواق العالمية.
سموه ولياً للعهد ورئيساً لمجلس الوزراء
في 30 نوفمبر عام 1965م، كان الشيخ جابر الاحمد لا يزال وزيراً لوزارة المالية والصناعة، ووزارة التجارة، حين صدر امر اميري بتعيينه رئيساً لمجلس الوزراء وتكليفه بتشكيل الحكومة.
وبعد اربعة ايام من صدور الامر الاميري ، رفع خطاباً الى امير البلاد متضمناً اسماء الحكومة في اول تشكيل وزاري يترأسه بعد تعيينه رئيساً لمجلس الوزراء، وبعد اداء اليمين الدستوري امام الامير الراحل الشيخ صباح السالم الصباح، ومن ثم امام مجلس الامة الكويتي، قام رئيس مجلس الوزراء في 8 ديسمبر 1965م بعرض البرنامج الحكومي امام المجلس، وقد تضمن تطلعات الحكومة المستقبلية، ومشروعاتها الصناعية والانمائية خلال عام 1966م.
وفي 31 مايو 1966م، صدر امر اميري بتعيين الشيخ جابر الاحمد الجابر الصباح ولي عهد لدولة الكويت وقد بعثت ملكة بريطانيا «اليزابيث الثانية» برقية لأمير دولة الكويت الشيخ صباح السالم الصباح، تتضمن تحياتها وتهنئتها الحارة بتعيين الشيخ جابر الاحمد ولياً للعهد.
كما بعث عدد من رؤساء الدول والحكومات في الدول الشقيقة والصديقة بمثل هذه التهنئة والمباركة على حسن الاختيار.
وعلى اثر هذه المبايعة الاجتماعية لهذا الاختيار من قبل مجلس الامة الكويتي، ومن ثم الشعب الكويتي بأسره بتاريخ 2 يونيو عام 1966م، قام الشيخ جابر الاحمد بالقاء بيان امام مجلس الامة الكويتي، تضمن تشخيصاً دقيقاً لواقع المشكلات المجتمعية القائمة في المجتمع الكويتي، مع التركيز على التداعيات السلبية الحادة على وجد الخصوص، وذلك بهدف السعي من قبل السلطتين... التنفيذية والتشريعية لايجاد الحلول المناسبة الناجعة لها، والتوجه للمستقبل برؤية جديدة. وقد جاء هذا البيان بمثابة استراتيجية عمل للحكومة في عهد جديد لمواجهة اوضاع اجتماعية واقتصادية وسياسية وتنظيمية، وتوصيف العلاقة المتبادلة بين السلطتين، وما ينبغي ان تكون عليه هذه العلاقة من تضامن وتعاون من اجل الصالح العام، وفي مقدمتها مصالح الدولة العليا.
وفي صدر هذا البيان استعرض ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء الشيخ جابر الاحمد ما حققته الكويت من تقدم وتطور حضاري، ورأى ان من الواجب اخضاعه للتقييم والمراجعة المتأنية ضماناً لسلامة الوطن ومسيرته، وحماية للمجتمع من كل شائبة يمكن ان تقفز على التراث الوطني، وتمس الامن القومي، والثوابت الاجتماعية والسياسية التي تمسك بها الآباء والاجداد وساروا على هداها.
وهنا، كان للشيخ جابر الاحمد وقفة، قال فيها: «... لقد خطت البلاد في سنوات قليلة خطوات واسعة في شتى الميادين، وتوالت عليها من الاحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية ما كان له ابلغ الاثر في تطوير حياتنا العامة وتغيير في ملامح المجتمع الذي الفناه. فمن تعديل شامل في تشريعات البلاد ونظامها القضائي، الى استكمال لاستقلالها وسيادتها في الداخل والخارج، الى دستور يساير نهضتها، ويصون الحريات، ويكفل الاستقرار، وهكذا دخلنا معترك الحياة الديمقراطية والنيابية من اوسع باب...».
ويمضي قائلاً: «.... وكان طبيعياً ان نستعين في هذا التطور السريع الذي يكاد يشبه الطفرة بعدد من اخواننا من الدول العربية الشقيقة. ورغم ما بذلوه من جهد مشكور فإن الوقت لم يتسع امامهم لتشرب عاداتنا وتقاليدنا المحلية، فجاءت بعض التشريعات والنظم المستحدثة غير مجارية لواقعنا. ولكن ما دام زمامها الان بأيدينا فما علينا الا ان نعدل او نلغي ما يتطلب التعديل او الالغاء منها في ضوء التجربة العملية المكتسبة، بدلاً من التشكيك بالجملة في كل ما هو مستحدث...».
مؤكداً في بيانه: «.... ان النقد البناء وحده هو الكفيل بارشادنا الى ما يجب ان نفعله، والى الحلول المثمرة المرتجاة، اما النقد الهدام، فلن يعود على هذا البلد الا بأشد الاضرار...».
وحول السياسة الخارجية اشار: «.... لقد قلنا في اكثر من مناسبة، اننا نؤمن بأن سياسة الحياد الايجابي، وعدم الانحياز لاي من المعسكرين الكبيرين المتنافسين، هي الخطة السليمة المحققة لمصالحنا، وصالح الاسرة الدولية عامة. واود ان اقول بصراحة ووضوح، اننا اصدقاء لجميع الدول التي نتعامل معها، اياً كان المعسكر الذي تنتمي اليه، علاقتنا بها جميعاً تقوم على الاحترام المتبادل والمساواة في المعاملة، مع عدم السماح لاي منها بالتدخل في شؤوننا الداخلية، وان اي تدخل من اي منها في هذه الشؤون، ومهما كانت الروابط التي تربطنا بها، سوف ينبني عليه حتماً اعادة النظر في علاقتنا معها. فنحن لا نقبل بحال من الاحوال ان تساس امورنا من الخارج...».
إن لله وإنا إليه راجعون