[frame="3 80"]
محاكمة صدام على قناة الجزيرة
جلادون صادروا الحرية.. وضحايا لا يصدقون أنهم يعيشونها

على قناة «الجزيرة» تابعت ـ مع الملايين ـ الجولتين الثالثة والرابعة من محاكمة صدام حسين، ورفاقه المتهمين بقتل 148 مواطنا عراقيا من أهالي قرية الدجيل، وتعذيب بقية أهل القرية، لأتأكد من ان الحرية حالة لا يمكن فرضها بـ «كبسة زر»، انها نخيل نزرعه ونرعاه وننتظر طويلا قبل ان نأكل من تمره، اما الديموقراطية فتقاليد تحتاج الى وقت وممارسة وتدريب، وتحتاج ـ قبل كل هذا ـ الى ضمير نقي لم تلوثه الدكتاتورية.
المحاكمة ـ بأسرها ـ تمثل مشهدا جديدا يفتح للمظلومين باب الأمل في ان يأتي يوم القصاص من ظالميهم، فها نحن ـ أخيرا ـ نرى مسؤولا كبيرا، بل أكبر مسؤول في البلد، نرى رئيس الجمهورية السابق صدام حسين يحاكم مع معاونيه على ما ارتكبوا من جرائم في حق الشعب العراقي، لقد رأينا من قبل انقلابات وثورات تسقط القادة.
والجديد ان الأمر هذه المرة امتد الى محاكمتهم ولم يكتف بعزلهم. والمحاكمة كما تابعناها تكشف ان هذا التطور، على أهميته، لا يصنع ـ وحده ـ حالة الحرية والديموقراطية، التي تحتاج الى وقت وتدريب، ولهذا رأينا برزان التكريتي ـ رئيس جهاز المخابرات العراقية في نظام صدام حسين، وأكثر متهم ذكر الشهود جرائمه ـ يبرر ما ارتكب وما أمر به من تعذيب قائلا للقاضي: «كانوا ـ أي الشهود ـ في السجن، وكان هناك تهديد لسلامة البلاد، كانت هناك محاولة لاغتيال الرئيس صدام حسين، وهو كلام مؤداه ان التعذيب أحد لوازم السجن، أو ان كون الانسان مسجونا سبب كاف لتعذيبه، ومؤداه ان سلامة البلاد تتلخص في سلامة الرئيس، وأقل خطر يتهدده يمثل تهديدا لأمن الوطن، وان حالة التهديد هذه تعطي للسلطات الضوء الأخضر للاعتقال الجماعي والتعذيب والقتل بلا حدود، اذ ان قرية بكاملها كان عليها ان تدفع ثمن محاولة مزعومة لاغتيال الرئيس، وهي محاولة ـ ان صحت ـ لا يعقل ان كل أهل القرية، ولا نصفهم ولا ربعهم، كانوا مشتركين فيها.
هذه الرؤية التي عبر عنها برزان التكريتي هي الدكتاتورية بعينها، كأن الرجل لم يستوعب ما جرى، لم يدرك ان عليه ـ ولو من باب التظاهر ـ ان يعتمد لغة اخرى يدافع بها عن نفسه. ان ما قاله برزان يكفي وحده لادانته، فهو يعبر عن ذهنية جلاد لا شك فيه.
وفي المقابل، فان الشهود بدوا مضطربين خائفين متلعثمين، كأن المظلوم لا يصدق انه يقف امام ظالمه، لا بل ان ظالمه يقف أمامه خاضعا للمحاكمة والحساب، وهكذا رأينا الشاهد الأول في الجولة الثالثة (الدجيلي) يذكر بعض البيانات غير الدقيقة، ويسير في خطوط فرعية مع ان من مصلحته ان يبقى مع الحدث الرئيسي، وعندما أرشده القاضي الى أهمية التركيز على صلب الشهادة ارتبك واعتقد ان القاضي ينهره ويطالبه بقطع شهادته، ورأيناه ـ في انكسار واضح ـ يعلن توقفه عن الكلام استجابة لما ظن انه رغبة القاضي رافعا يديه الى رأسه وهو يردد «سلاما سلاما سلاما»، وحسنا فعل القاضي حين أكد له انه لا يتعجله ولا يطالبه بالانتهاء، وان له ان يسترسل في الحديث كما يشاء، مع عبارات قالها القاضي لطمأنة الشاهد وتهدئة خاطره، ليواصل الحديث بعد هذا نحو ساعة، أدلى خلالها بأخطر أقواله وأكثرها أهمية، وبكى وهو يتذكر عذابه مع أهله وجيرانه ومصرع بعضهم أمام عينيه، وكيف رمى الجلادون جثة رضيع امام أمه في سلة القمامة، الى غير ذلك من فظائع كاد الشاهد الا يذكرها لأن خوفه المتوطن من «السلطة» ـ أي سلطة ـ صور له ان القاضي ينهره، وما دام صاحب السلطة ينهره فليس أمامه الا ان يستجيب، ليس أمامه الا ان يصادر ـ بنفسه ـ حقه ووجوده مع ابداء المزيد من الاحترام وهو يرفع يديه الى رأسه مكررا «سلاما» ثلاث مرات.
الرابط بين برزان والدجيلي ان كليهما لا يتنفس أجواء الحرية والديموقراطية، الأول لأنه جلاد عاش عمره كله وهو يعاديها، فهو لم يعرفها، وهو لا يعرفها، وهو لن يعرفها، والآخر لأنه ضحية عاش عمره محروما من هذه الأجواء، حتى اذا هبت عليه بعض نسائمها وقف مذهولا لا يصدق ولا يعرف كيف يتصرف، هو حتى الآن لا يعرف، لكن المستقبل كفيل بأن يجعله من العارفين. [/frame]