عائلة فقيرة والمبيت في المطبخ لكن الجوع لم يدهم بطوننا ولو ليوم واحد
كسول بامتياز في المدرسة رغم انف أمه ومرتبة الشرف في نادي الكرة الخماسية
ليس ادل على حال الفقر التي كان يعيشها نيليو لويس نازاريو دي ليما، الموظف البسيط في شركة الاتصالات بولاية ريو دي جانيرو، من اقدام زوجته سونيا على إجراء عملية جراحية لربط الانابيب، اي لمنع الحمل مرة جديدة. فراتب رب العائلة متواضع جداً وهو دادادو اسمه الاول المولود الجديد في صحة جيدة، فوزنه 3،36 كلج وطول قامته 50 سم، اما اسمه فهو رونالدو. وقد سكنت العائلة المكونة من خمسة اشخاص في منزل صغير مساحته 40 متراً مربعاً يحمل الرقم 114 في شارع جنرال سيزار اوبينو الواقع في حي بنتو ريبيرو بالقطاع الشمالي للريو، وقد ورثته والدته عن ابيها. نام وهو رضيع في غرفة الوالد والوالدة ثم كان نصيبه المطبخ الصغير مع شقيقته ايون التي تكبره 4 سنوات وشقيقه نيليو جونيور أو “نيلينيو” الذي يكبره 18 شهراً. وأهم ما في المنزل المتواضع مروحة وجهاز تلفزيون ابيض وأسود.
الاحوال صعبة، ومع ذلك رفض الوالد نيليو، وهو خلاسي كزوجته، السماح لهذه الاخيرة بالعمل وهي كانت تعمل موظفة صندوق في متجر كبير عندما تعرف إليها قديماً. ومع ذلك لم ينم الاولاد الثلاثة ابداً الا وبطونهم ملآنة. لذا عندما يتحدث رونالدو عن طفولته يردد باستمرار: “لم يعذبني الجوع ابداً”. والامر مهم كثيراً بالنسبة الى هذا الصبي الذي لم يعان من سوء التغذية خلافاً للملايين من مواطنيه الصغار لان قوته البدنية لم تضمحل باكراً.
كان رونالدو محظوظاً فعلاً لانه لم يذق طعم سوء التغذية ولأنه ايضاً لم يشذ وينحرف برغم تصنيفه في اسفل السلم الاجتماعي في منطقته. فالاتجار بالكوكايين والماريجوانا فيها على قدم وساق، وحتى والده نيليو ضبط عام 1997 على شاطىء كوباكابانا وفي حوزته كمية صغير من الكوكايين واتهمه شرطيان بمحاولة رشوتهما لكنه اكد انه اقلع عن تعاطي هذا المخدر “منذ ان صار ولدي شهيراً”.
ولان شقيقه نيلينيو لم يكن يعرف كيف يلفظ اسم رونالدو بطريقة صحيحة دأب الجميع على اطلاق اسم دادادو على المولود الجديد. وفي عيد ميلاده الرابع حصل على اول كرة قدم في حياته وكانت بيضاء من البلاستيك. داعبها طويلاً واكتسب المهارات الاساسية تدريجياً، وكان يسهر عليها ولا يدع حتى والده يلمسها. ثم كانت تلك المباريات المفاجئة في آخر شارع جنرال سيزار اوبينو قريباً من المقهى الذي كانت والدته تقصده للرقص في صباها. رقص بدوره الى ان صنف “بوم دي بولا”، اي “جيد مع الكرة” عندما صار في سن الثامنة وذلك من جانب جميع الذين شاهدوه.
وقبل ان يتوجه الى جزر الكناري ليحترف مع احد اندية كرة القدم الاسبانية داخل قاعة (الكرة الخماسية)، اجتمع ريناتو دا سيلفا بأحد افراد العائلة الصغار، وهو دادادو، ونصحه بأن يحمل كرة القدم على محمل الجد... و”التهم” الفتى الصغير الرسالة. كان خجولاً خارج الملعب وليس فخوراً بتحييده من قبل اقرانه بسبب “اسنان الارنب” التي تظهر بوضوح على وجهه، لكنه كان يستعيد كل ثقته بنفسه عنما تكون الكرة في حيازته. وما ان بلغ سن العاشرة حتى شعر بأنه يحتاج للتعبير عن مهاراته وحبه للكرة الى مساحات قريبة من قياسات الملعب الرسمية، وهي غير متوافرة في بنتو ريبيرو.
منتخب اكثر بياضاً في بلد النعال
عام 1986 خرجت البرازيل من ربع نهائي المونديال اثر خسارتها امام فرنسا بركلات الترجيح. وكانت تلك المرة الرابعة على التوالي التي يخفق فيها المنتخب، فراحت الصحافة تنشر “الغسيل الوسخ
وشنت حملة شعواء على زيكو المصاب في ركبته لانه اهدر ركلة جزاء ووصفته بالخاسر التاريخي الذي لعنه القدر للمرة الثالثة في التجربة العالمية. وكاد قلب دادادو يتوقف، لانه كان يحب بيليه الابيض من دون ان يعرف انه سيواجه تجربة مشابهة بعد 12 عاماً.
تحليلات كثيرة اعقبت الاخفاق عام ،1996 ومنها ان المنتخب منذ اللقب الاخير عام 1970 بفضل بيليه وجرزينيو وكارلوس البرتو دا سيلفا وزملائهم صار اكثر “بياضاً” في تطور غريب ومقلق لاحظه علماء الاجتماع. شراء الاراضي مسبقاً للبناء عليها مستقبلاً مع تحقيق ارباح عالية كان بمثابة جرس انذار للكرة البرازيلية لانه ادى الى اختفاء الساحات في ضواحي المدن وهي المرتع الاساسي لمباريات فقراء الازقة التي تحفل باستمرار بوجود الكشافين (اوليروس) التابعين لاندية المحترفين. وبسبب التمييز العنصري الاجتماعي وكذلك وجود ثروة الشعب بين ايدي القلة القليلة مال المنتخب ليكون نخبوياً. ذلك ان السود والخلاسين - الذين يمثلون 45% من عدد السكان والذين يمثلون ايضاً غالبية نسبة 20% من الشعب الذي يحصل كل فرد فيه على دولار واحد فقط يومياً - اغلقت في وجوههم، مع حرمانهم من ساحات اللعب، ابواب احد المنفذين للارتقاء الاجتماعي مع الموسيقا. وبرغم لمعانه لم يوفق منتخب 1982 في المونديال الاسباني ثم اخفق في مونديال 1986 وكان يتحكم بعنقه ثلاثة من البيض هم زيكو وحش فلامينغو، وفالكاو ملك روما وجمهور العاصمة الايطالية وكذلك سقراط الحاصل على دبلوم في الطب العام واليساري التوجه.
في هذه الاجواء تنامى التشاؤم وازداد الحنين. ف “بلد النعال” - الخاصة بكرة القدم - ينتظر منقذاً جديداً وجديراً بأن يكون تلميذاً لبيليه المعلم. ولد من ضاحية معدمة هو رونالدو، الخلاسي، سمع الكثير وقرأ الكثير عن الازمة ووعاها. فمن دون مليم واحد يصبح وضع القدم على نجيل حقيقي اشبه بالسراب. ومن دون المال لن يقدر على الانتساب الى احدى مدارس الكرة، وتحديداً مركز “غافيا”، وهو الحي الذي يقع فيه مركز التدريب الخاص بنادي فلامينغو، ولن يقدر ايضاً على شراء الفانلة الرقم (10) التي تحمل اسم لاعبه المفضل زيكو.
وعى دادادو كل هذه الامور فلم يقع ضحية الاوهام، ولم تكن لديه فرصة الابتعاد عن حدود بنتو ريبيرو الا عندما كان يرافق والده، مشجع فلامينغو، الى استاد ماراكانا، وهو اكثر مكان في شمال الريو يقصده سكان جنوب الريو.
البداية
في سن الحادية عشرة انخرط دادادو مجاناً في النادي الاقرب الى منزله (نصف ساعة مشياً) واسمه “فالكيري تنس كلوب”. الاسم غريب لان المضرب لم يظهر ابداً في هذا النادي باعتبار ان ملعب كرة المضرب غير موجود. النادي للتعارف وحفلات الرقص اكثر منه للمنافسات، وتشارك عائلة دي ليما دائماً في اعياد الحي التي ينظمها النادي. لكن هذا لم يمنع دادادو من ان يغازل الكرة على الاسمنت في المساحات الصغيرة الشاغرة، وكان هذا تمهيداً لممارسة منافسات الكرة الخماسية داخل قاعة (فوتسال) بدعم من قريبه ريناتو، وهي تلقى اهتماماً بالغاً لدى البرازيليين، ويكفي ان منتخبهم يتألق دائماً في بطولة العالم لهذه الفئة (اول بطولة 89 في هولندا وبطولة 92 في هونغ كونغ وبطولة 86 في اسبانيا الى ان فازت اسبانيا على البرازيل 4-3 في نهائي 2000).
وحتى يشتري الكرة الخاصة باع دادادو في الشوارع ثمرة كاجاميرين الاستوائية التي تقطف من شجرة قريبة من منزله.
ولم تكن الوالدة سونيا على قناعة بأن نجلها قادر على الارتزاق من كرة القدم فحاولت ان تغرس فيه عناداً مماثلاً في حب الدراسة. لكن عبثاً حاولت مع ان العائلة نزفت من شرايينها الاربعة لتدفع ثمن دراسته في معهد نوسا سنهورا البلدي ثم مدرسة سانتا مونيكا الخاصة. فشل دادادو في الدراسة ونجح شقيقه الاكبر نيلينيو الذي صار تلميذاً جامعياً في المستقبل. مباريات الازقة كانت الشغل الشاغل للصغير، وكذلك مباريات الاحد في نادي فالكيري: عوقب دائماً ووبخ دائماً وهدد... لكنه بقي كسولاً وبجدارة لا غبار عليها.
كسل هنا ولكن مرتبة الشرف هناك في نادي فالكيري. مدربه الشاب فرناندو كارفاليو الملقب ب “الكبير” لم يكن بلغ سن العشرين لكن نظرته كانت كنظرة كشاف محترف ومخضرم، فلم يخف عليه نبوغ دادادو. ومع اقتراب الموسم التالي، راح العصفور النادر يطير. ذلك ان مدربه الشاب كارفاليو تخلى عنه لمصلحة رؤسائه الجدد في نادي سوسيال راموس احد الاندية الراقية في المنطقة الشمالية من الريو.
من ارقامه الاولى
عام 1989 شارك دادادو للمرة الاولى رسمياً في بطولة ريو دي جانيرو للكرة الخماسية، وتحديداً في فئة الصغار حيث كان في سن الثانية عشرة. كانت ممارسة كرة القدم “الحقيقية” مستحيلة لان النادي لم يكن لديه قطعة واحدة مزروعة بالنجيل تصلح للتدريب على الاقل.
ومع ذلك، سارت الامور لمصلحة من صار يسمّى باسمه الحقيقي. اذ وافق نادي سوسيال راموس على دفع ثمن تنقلاته ومده بوجبة غذائية بعد كل تدريب ومباراة. الى ذلك وافقت الادارة بناء على الحاح من والدته على تقديم كل ملبوساته الرياضية بما في ذلك الجوارب.
وداخل القاعة، راح رونالدو يلتهم المدافعين، وراح معجبوه يحفظون انجازاته، ومنها دخوله المباراة ضد فريق بانيسبا ساو باولو قبل النهاية بدقيقة واحدة فسجل هدفين في مدى 30 ثانية ليتعادل الفريقان 2-2 ومنها ايضاً فوز فريقه على كلوب مونيسيبال 12-1 منها 11 هدفاً له شخصياً وقد زينها بتمريرة حاسمة جاء منها الهدف الوحيد الذي لم يسجله. اشتد عود الصبي فرأته عيون الكشافين.
لم ينجح رونالدو في الاختبار، وقد ذكرت اسباب عدة لذلك. وفي النهاية لم يركب ابداً الحافلة التي تنقله من بنتو ريبيرو الى غافيا (حيث مدرسة فلامينغو لكرة القدم). من الروايات، ان رونالدو غرق في مستنقع المرشحين وظهر عاجزاً عن عرض كل امكاناته. وقد ذكر عضو لجنة الامتحان وحارس فلامينغو السابق وهو كانتاريللي انه اوصى بقبول رونالدو لكن اللجنة لم تعمل بالتوصية. وفي تفسير اكثر رومانسية ذكرت سونيا والدة رونالدو على موقعه السابق في الانترنت ان عدم دخول ابنها مدرسة فلامينغو سببه عدم موافقة النادي على دفع مصاريف انتقالاته. وأضافت: “كان يوماً مشؤوماً. دخل رونالدو المنزل وهو يبكي بحرارة، وأخبرني عن فشله وعن فقدانه الساعة الجديدة والاولى التي اشتريتها له حيث اعتدى عليه صبيان في قطار العودة وسرقاها منه”. مثل هذه الراوية رد عليها الوالد نيليو وقال: “لم نكن فقراء لدرجة نعجز فيها عن دفع مصاريف الانتقالات لابننا”.
مسلسل البؤس
وحتى يكتمل مسلسل البؤس، انفصل الوالد عن الوالدة حبياً بعدما تعرف إلى إمرأة اخرى. واضطرت والدة رونالدو للعمل حتى تتمكن من وضع “الحلة” على النار. حظيت بوظيفة في مقهى في مقابل 80 دولاراً شهرياً وكانت تترك المنزل يومياً من الثالثة بعد الظهر الى منتصف الليل، وكانت ابنتها ايون (16 عاماً) تقوم بمهام الوالدة في غياب امها. ولم تعد الوالدة يوماً الى المنزل الا والاولاد في “سابع نومة”.
وتحت انظار والده الذي كان شغوفاً بمتابعة مبارياته، خاض رونالدو بطولة الكرة الخماسية تجتاحه روح الثأر من واقعه الصعب، فحصل فريقه على المركز الثاني في بطولة الريو وتوج هو نفسه هدافاً للمسابقة برصيد 49 هدفاً في 24 مباراة. كان ذلك عام 1990 وبموجب عقد توأمة بين نادي سوسيال راموس ونادي ساو كريستوفاو انضم افضل 8 ناشئين من الاول الى الثاني. وعندما استقبل نادي كريستوفاو رونالدو كان من اندية الدرجة الثانية في ولاية ريو دي جانيرو. اما ملعبه فكان من الدرجة الثالثة. وتشاء الاقدار ان تنبت ارض هذا الملعب، وبسرعة صاروخية، ثمرة حلوة المذاق ....
25-06-2005, 10:50 PM
المواضيع المتشابهه
